جبر...جبر...!!

معذرة لهذا العنوان , لكن الواقع الأليم الذي تعيشه مجتمعاتنا يؤكد قطعا أن من الأسباب الأساسية لما يجري من تداعيات وتفاعلات إهلاكية مروعة , يكمن في عدم تذوق طعم الحياة , أو فقدان آليات صناعتها والتمتع بها وبمعطياتها المتنوعة.
فالإنسان في مجتمعاتنا يولد ميتا ويعيش ميتا , ولا فرق عنده بين الحياة والموت , لأنه ما تمتع بأيامه ولا تذوق حياته وتنعم بالسعادة والبهجة والفرح والسرور.
الطفولة تعيسة ومعاناة قاسية وحرمان وإذلال وهوان , وجوع وفقر وحسرات وآلام , وضياع وتيهان في مواجع الأيام , وما يتبعها من مراحل العمر تبدو وكأنها مسيرة قهرية ترويعية ظالمة , لا تحترم الطفولة ولا تعتني بها وترعاها , وما يتلقاه الطفل في مجتمعاتنا لمشين ومخزي , ويُعد وفقا لمعايير العصر إمتهان سافر ومصادرة لحقوق الطفل وقيمته ودوره في الحياة.
وفي المراحل الأخرى يمضي الإنسان مقاسيا معذبا مقهورا بائسا مهانا يملأه شعور بالخيبة والحرمان والذل والدونية والبؤس مصيره , وكل ما حوله يرسخ فيه أن يستسلم ويذعن ويرضى بما هو عليه , حتى ليتحول إلى مخلوق بلا إرادة وقدرة على بناء شيئ أو العطاء , لأن الحياة بلا معنى ولا قيمة ولا عنوان.
وتجده بعد أن ينهي مراحل الدراسة ويتخرج من الجامعة , قد وقف أمام نفسه خائبا نادما يلعن الأيام التي قضاها في الدراسة , لأن شهادته لا تطعم من جوع ولا تؤمن من خوف , بل تطلقه كسيرا حسيرا متوجعا يبحث عن مستقبل لا يعرفه , وقد إنحشر في صندوق الواقع الذي يحكم غلق المنافذ عليه , ويسخره لكي يكون حطاما وحطبا لمشاريع السوء والبغضاء والكراهية والفناء.
وفي أكثر الأحيان ترى الحكومات أن الطريق الأمثل للخلاص من الطاقات الشبابية أن تلقي بها في أتون النيران , فتصنع الحروب وتدخل في معتركات تنمية الهموم وقتل الأجيال , حتى لتؤول الأمور إلى وديان الخيبات والإنكسارات والدمارات الذاتية والموضوعية.
ولا يجد البشر منقذا من هذا المصار البائس إلا بالتعلق بالدين وتحميله ما لا طاقة له به , فتجد الشباب قد وجد ضالته في إمتطاء حصان الدين , لأنه يمنحه بعض الأمل والخيال والوسائل التي يعبر فيها عن طاقاته المكبوتة وإرادته المخنوقة , وهو يحلم بحياة سرابية ذات قيمة ومعنى حتى في مماته , وبهذا تتساوى عندة الحياة والموت , بل أن الموت يتفوق على الحياة لأنه يكنز أملا بحياة أفضل , أما الحياة فلا أمل فيها , ولا مخرج من أسرها المقيت الثقيل الخالي من البهجة والقوة.
وعليه فأن القائلين بتغيير الحالة عليهم أن لا يغمضوا عيونهم , ويرون وفقا لما يبرر تطوير مصالحهم , وإنما يجب أن يعوا الحقيقة الكبرى , أن الإنسان الحائر الذي لا يعرف الحياة ولم يذق طعمها اللذيذ , ينحدر إلى حيث المساوئ والتداعيات , وعندما نعلّم البشر قيمة الحياة ونشعره بطعمها سينحاز إليها , ويتجنب دروب الموت المطعم بالحياة الموعودة.
إن إغفال هذه القضية الأساسية يساهم وبقوة في صناعة الموت وشركاته وأحزابه وفئاته , فبعد أن إحتفن الناس باليأس والبؤس والحرمان , إنبعج ما فيهم من الطاقات ولكن بأساليب أخرى تنتقم لنفسها من الحياة.
فأطعموا الناس حياةً ليعرفوها ويتمسكون بها!!