كما يراها متخصص, سد الموصل وتناقض التصريحات


الخسائر البشرية والمادية الهائلة وما يلحقه من دمار في البنية التحية لفشل وانهيار السدود امر مرعب نتيجة للقوة التدميرية لاندفاع امواج المياه عند الانهيار المفاجئ. وعلى هذا الاساس تسير خطى تصميم وبناء السدود ومراقبة عملها انيا من خلال العديد من مجسات واجهزة الاستشعار امر غاية في الضرورة لاتخاذ الاجراءات اللازمة والاحترازية على مدار الساعة. ولو استعرضنا بصورة موجزة الاسباب الرئيسية لانهيار السدود وما صاحبه من كوارث بيئية وصحية وبشرية ومالية لوجدنا ان غالبيتها تعود الى اخطاء بشرية قد حصلت في مرحلة التصاميم او لسوء التقديرات للعمليات الهندسية المتعددة او لعوامل طارئة كان تكون تهديدات واستهداف بصورة مباشرة. من هذه الاسباب مثلا هو تصميم وبناء قنوات تصريف صغيرة ولا تتسع لتصريف المياه الفائضة عندما يبلغ مستوى المياه اعلى من المعدل الهيدروليكي المسموح به مما يؤدي الى ان تأخذ المياه طريقها لتصب على جدار السد مما يؤدي الى تلفه وبالتالي تصدعه. ومنها ايضا اخطاء متعلقة بأساليب البناء كتسليط ضغط غير كافي لعمليات الحشو او استخدام نوع خاطئ من مواد البناء مما يؤدي الى تأكل الطبقة الداخلية والانابيب كانهيار سد تيتون في امريكا منتصف تسعينات القرن الماضي. ومنها ايضا المشاكل الجيولوجية مع اساسات السد حيث تتفكك طبقات الارض وخصوصا الحجر الجيري بعد فترة من انغماسها بالماء وبالتالي انهيار للطبقات الارضية كما حصل في سد مكالباسيت في فرنسا مطلع ستينات القرن الماضي. منها ايضا نتيجة للزلازل كما حدث في كاليفورنيا مطلع سبعينات القرن الماضي.

احاول هنا ان اقدم استعراضا مبسطا قد استغرق العمل فيه لوقت لتوضيح الصورة الحقيقة لما يراه الكثير تضاربا للتصريحات بين الحكومة العراقية والامريكية. حاولت جاهدا ان اجمع اكبر كمية ممكنة من المعلومات المتوفرة وعليها اجريت عدد كبير من الحسابات والفرضيات والتي اوضحت جوانب ذلك التضارب في المعلومات وليس كما فسره البعض بعوامل سياسية كوسيلة ضغط او ابتزاز او ما شاكل ذلك. القضية ليست هكذا تماما بل ان الطرفين قد اخفوا جزءا من الحقيقة كما سأبينها لاحقا. كما وسأتجنب الدخول كثيرا في المواضيع التقنية البحتة او الحسابات الهندسية الا بما اقتضت به الضرورة.

يقع سد الموصل على نهر دجلة وهو مصمم بطاقة تخزينية بحدود الثمانية مليارات متر مكعب من المياه وبحمل هيدروليكي يتجاوز العشرة مليارات متر مكعب. يمتد السد على طول ثلاثة ونصف كيلومتر وبارتفاع لأكثر من مئة وعشرة امتار. تم تصميم السد من قبل شركة استشارات اوربية كما واشرفت نفس الشركة على عملية البناء والتي قادتها تحالف من شركات اوربية. وتم الانتهاء من العمل فيه في منتصف ثمانينات القرن الماضي. تكلفة بناء السد قد بلغت بحدود المليارين ونصف دولار امريكي.

لإعطاء فكرة عن حجم الكارثة لو لأقدر الله حصل الانهيار فالحسابات تشير مبدئيا الى ان الموجة المدمرة ستصل الى مدينة الموصل خلال ثلاث ساعات ونصف تقريبا وبارتفاع موجة شاهق قد تبقى ذروة الموجة لمدة زمنية بحدود السبعة ساعات. اما بالنسبة لبغداد والتي تقع على بعد تقريبي قدرته بخمسمائة كيلومترا فستصل موجة المياه بحدود يوم وبارتفاع لعشرات الامتار قد تستمر الموجة بطاقتها لأكثر من يومين. من هنا يتضح حجم الكارثة الفعلية لأقدر الله. اذن حصول اي انهيار لاقدر الله وخصوصا ان قوة ذروة الاندفاع سيكون مسارها ضمن مدن وقرى ذات كثافة سكانية عالية وستكون بلا شك الاسوء في تاريخ البشرية لما قد ينتج عنه من خسائر بشرية هائلة ومشاكل بيئية وصحية تحتاج الى جهد كبير وسنوات طويلة لتقليل تأثيراتها. هذا يعني اننا امام قضية قد تعادل في اضرارها ودمارها الاستخدام المباشر للأسلحة النووية وابادة سكانية هائلة خلال ساعات. الحديث اذن في غاية الخطورة وليست القضية عرضا للمزايدات السياسية.

ولكي نركز الكلام اكثر على الجوانب الخفية من مشكلة السد نستعرض وبصورة فنية وهندسية مبسطة ما هو متعلق بالحكومة العراقية وما هو متعلق بالتصريحات الامريكية.

السد قديما وحديثا والتصريحات العراقية:

استطعت ان احصل على نتائج بحث جيولوجي لمنطقة ليست ببعيدة عن السد. البحث الجيولوجي لطبقة الارض تتضمن سلسلة من الصخور منها الجيرية والجبس والأنهيدريت وطبقة طينية مع الحجر الجيري وكما هو معروف فان الجبس اكثر قابلية للذوبان في الماء من الصخور الجيرية. طبقة الجبس هذه تقع في طبقات متعددة وبسمك لكل طبقة يتراوح بين عشرة الى عشرين مترا حيث الطبقة الفاصلة بينها وبين طبقة الأنهيدريت هي بحدود التسعين مترا تحت الارض. تسرب المياه او ارتفاع المياه الجوفية سيتسبب بتأكل وذوبان هذه الطبقة سريعا. سرعة هذا التأكل والذوبان تعتمد على الكثير من العوامل ومنها طبيعة ومدى تلوث هذه المياه. اذن السد قد انشا اساسا في منطقة غير صالحة اطلاقا لتحميل طبقات الارض حملا بهذا الحجم. ذوبان وانهيار طبقات الجبس سيتسبب في ظهور عدد من الانخفاضات لقاعدة السد واساسته مما يتطلب حشوه وحقنه باستمرار تحت الضغط. هذا العمل يتطلب ان يكون هنالك عمال دائما مناوبين على مدى الساعة في محاولة لاستباق هذا التأكل في قاعدة السد من خلال الحشو المستمر. اما كيف يعرف مشغلو السد هذا التأكل فهو يتم عادة اعتمادا غلى قراءات مقاييس مراقبة ضغط المياه لتحديد مستوى الانحدار والتي تقع بين المنبع والمصب. اذن لدينا مشكلة كبيرة في طبقات الارض مما يستدعى استخدام الحشو المستمر كحل قصير المدى اما الحلول طويلة المدى لقضية مثل هذه فعادة ما تكون معقدة والحلول لها اما يتم رفضها لأسباب اقتصادية كونها عالية الكلفة او بيئية كتلوث المياه الجوفية وغيرها. الحلول قصيرة المدى لا يمكن الاعتماد عليها بشكل دائم كونها قد تؤدي الى هبوط كبير خارج نطاق السيطرة في قاعدة السد نتيجة ذوبان طبقة ارضية كبيرة وبالتالي تصدع الجدران والانهيار المفاجئ. وهذا يعني اننا امام قضية حظ ووقت وهذا ليس بالمنطق الذي يجعل دولة تراهن به على حياة ملايين البشر.

اضف لذلك ان اكبر تسرب للمياه من المواقع الثلاثة المحددة هي وكما يبدو من الجهة اليسرى لقناة تصريف المياه الفائضة ومنذ بناء السد وهو ايضا خطا كبير ثاني في التصميم والذي قد يؤدي الى تأكل جدار السد وتشققه وانهياره.

لا يمكن باي حال من الاحوال اعتبار النتائج اعلاه خطئا بشريا بل اقول جازما انه حتى وان اخطأت الشركة الاستشارية في حسابات الحمولة الهايدوليكية مع قوة تحمل وطبيعة طبقات الارض فلا يمكن ان تغفلها شركات المقاولات لبناء السد عندما بدأت عمليات الحفر. اذن القضية التي امامنا ان هنالك حقيقة لتصاميم خاطئة اكتشفتها الشركات اثناء البناء وتم التستر عليها وذلك باقتراح المراقبة والحشو الدائم للقاعدة منذ بداية عمل السد الى الان وان كانت بوتيرة ثابتة كما يبدو واقل من الان لأسباب سأتطرق اليها لاحقا.

التصريحات العراقية بخصوص عدم وجود مشكلة في السد هي تنطلق اساسا من مقاييس واجهزة مراقبة الاداء والاستشعار حيث يبدو كل شيئ يجري على مايرام باستثناء عدد من نقاط الانخفاض للقاعدة حيث يتم الحقن الكونكريتي باستمرار لكنهم لا يتطرقون لأساس المشكلة استخفافا او جهلا اولوجود ضغوطات خارجية لان من حق الحكومة العراقية رفع دعوى تعويض ضخمة على الشركات الاوربية المشاركة.

التصريحات الامريكية

الملاحظ ان ظهور عدد الانخفاضات والانهيارات في القاعدة من جهة الضفة اليمنى للنهر وبمعدل ثايت حتى تسعينات القرن الماضي حيث تصاعدت وتيرته كما يبدو. هذا يعني ان الطبقة المشكلة من الصخور الجيرية قد تحركت وهذه قد تكون نتيجة لاختلافات مستوى الاحمال في السد او الضغط الناتج من المنحدر والذي يولد قوة محورية او قوة معينة كالزلازل على سبيل المثال. القضية التي تحاول الحكومة الامريكية اخفاؤها هو العمليات العسكرية والضربات الجوية في حرب الواحد والتسعين والذي اصابت فيه عدد من الصواريخ محطة الكهرباء الموجودة في السد. ونتيجة للقوة التدميرية الهائلة لهذه الصواريخ الموجهة وبكيات كبيرة فقد ادى ذلك الى حركة الطبقة الصخرية وبالتالي فالسد يعاني من هشاشة قاعدة واختلاف توزيع الاحمال فيها نتيجة حركة الطبقة الصخرية. ما يعزز هذا التحليل الفني هو:

اولا: زيادة وتيرة الانهيارات في القاعدة منذ بداية التسعينات

ثانيا: يبدو ان هنالك انهيار في عام الفين واربعة في قرية مجاورة وبمساحة اجمالية بحدود العشرين مترا تتحفظ عليها حكومتي واشنطن وبغداد.

الحكومة الامريكية اذن قد اخفت قنبلة موقوته لإبادة جماعية نتيجة عمليات عسكرية لا تستطيع التصريح بها لأنها ستكون اعداد لجريمة ابادة في القانون الدولي وغيرها من التبعات الكثيرة كما وتعرف انها فقط مسالة وقت وسينهار ولديها الاقمار الصناعية لمسح طبقات الارض وتعرف جيدا حركة الطبقة الصخرية هذه. على الحكومة العراقية اذن ان تأخذ التحذيرات الامريكية محمل الجد وتبتعد عن ربط الموضوع بقضايا سياسية فهم اي الامريكان يحاولون اطلاق التحذيرات حتى لا تسلط الاضواء ويظهر ما اخفوه عند انهياره لأقدر الله.

هنا اوجه نداءا عاجلا الى الحكومة العراقية بمحاولة تصريف اكبر كمية من المياه.

تجدر الاشارة الى ان هنالك عدد من الحلول الفنية والتي ستساعد على تحسين العمل بالحلول قصيرة الامد منها مثلا تغيير مواصفات مزيج الحقن, الحقن والحشو بضغط اعلى, تحديث انظمة المراقبة والاستشعار ومراقبة نتائج المسح للاقمار الصناعية, اما تلك المتعلقة بالحلول الدائمية فلى يمكن تلخيصها بهذه المقال.