ماذا تمثل الكتابة اليوم كمهنة؟ هل صحيح ان مهنة الكتابة لا تطعم خبزاً؟ ماذا يمثل الكتاب في مجتمع اليوم؟ ما علاقة الكاتب مع مختلف الاطراف المتصلة به: الناشر، الملتقي، الدولة..؟ لمن يكتب الكاتب؟ هذه الاسئلة تثير اسئلة عديدة اخرى وتستحيل الى هاجس نظري بنيت عليه اراء ومسلمات ونظريات مختلفة ستظل مثاراً للنقاش طالما كانت هناك كتابة وطالما كان هناك كتّاب. بعيداً عن كل صيغ الاجابة على هذه الاسئلة الكبيرة.. فأن من مقومات اي عمل ابداعي يبدأ بالحرف، اي بما تخطه اليد، وينتهي بالحرف الذي يقرأه المتلقي. وفي المردود التواصيلي، ان تكون له حاضنة تتلقى هذه الكتابة وتقيمها وتستجيب له او تخالفه وتنحاز لسواه.. وهذه الحاضنة ليست سوى المتلقي الذي يتوجه اليه الكاتب عبر عمله الابداعي. فبين الحرف الاول والحرف الأخير مجموعة عمليات متداخلة لا سبيل الى الاستغناء عنها.. فالناشر يختار النصوص ، والمطبعة تجعلها مضاعفة آلاف المرات ، والموزع يحاول اقتحام السوق واجتذاب القراء. لنفترض ان الكاتب في وادٍ، وان المتلقي في واحد آخر.. ماذا ستكون النتيجة؟ وماذا سيبقى للكاتب من كل الذي يكتب؟ وماذا سيبقى للمتلقي من كل الذي يقرأ؟ بين هاتين البؤرتين تتحدد ملامح البؤرة الأكثر يقيناً والأصلب نوراً.. ولنفترض مرة اخرى، ان الكاتب بعيداً عن مفهوم البرج العاجي، انما يكتب لكي لا يقرأه احد فما ستكون النتيجة، اذن؟ في هذه الحالة يكون هناك منتج هو في الوقت ذاته المتلقي. وبهذا، فان مفهوم المشاركة الجماعية للابداع سيتعثر وسينزلق الى هوة عميقة مرتطماً بالاحجار والنتوءات.. يقول رولان بارت في حبه للكتابة وكأنه يريد ان يصون هذا الحب من مخالب الناشر ("لقد تساءلت كثيراً، لماذا احب الكتابة بيدي طبعاً. لأن الجهد الذي يتطلبه العمل الفكري يتحول الى لذة في نظري عندما ارى على الطاولة من امامي ورقة بيضاء وريشة ممتازة. وفي اللحظة التي افكر فيها بما عليّ ان اكتبه، وهذا يجري في هذه اللحظة بالذات، اشعر بيدي تتحرك وتبرم وتدور وترتفع وتتوقف وتحافظ على المساحات بين الاحرف، فأنا فنان لا بصفتي أصور شيئاً فحسب ولكن لأن جسمي ذاته يشعر بلذة الكتابة )". هكذا ينظر رولان بارت الى مهنة الكتابة، وهو يرى انها مهنة قديمة، فالكتابة ليست نشاطاً تقنياً فقط ولكنها ايضاً ممارسة جسدية للذة، وهذا لا يعني ان اختراع الكتابة وتطورها لم يكونا نتيجة حتمية تاريخية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، فمن المعروف ان الكتابة نشأت اساساً في محيط البحر الابيض المتوسط لاسباب تجارية، ومنذ ذلك الوقت كانت تشبه ما نسميه اليوم بالتخطيط، اي الحرص على المستقبل والاعداد له. واذا كانت الكتابة عملاً، فعلى الكاتب ان يعامل كعامل، وقد أقرت بعض الدول هذه المعادلة وخضعت الكتّاب بنظام ضريبي واجتماعي مناسب. ومع ذلك فما زالت تنتشر بين المؤلفين الفكرة القديمة عن عملية الخلق، وتعتبر هذه الفكرة، ان الكاتب تبعده عبقريته عن الناس ويعيش على هامش المجتمع بعيداً عن كل الاهتمامات المادية والمسؤوليات الاجتماعية، كما لو كان الادب لا علاقة له بالانتاج. والشيء الاقرب الى الصحة في هذا الموقف، ان الكتابة عمل له خصائصه المميزة غير محكوم بالوقت ولا بالانتاج من حيث ان من الصعب برمجته، فلا أحد بمن في ذلك الكاتب نفسه قادر على التنبؤ بالوقت الذي تتطلبه صياغة نص ما، والحجم الذي سيكون عليه والمتلقي الذي سيقرأه. والكتابة من هذه الزاوية تبدو عملاً غير وظائفي، ومهمة الكاتب تنتهي مع كتابة آخر حرف في النص، ومع ذلك فاذا لم تتم مضاعفة النص مئات وآلاف المرات.. واذا لم يتم نشره، فكأنه لم يوجد على الاطلاق. وعندما تتجسد الكتابة في كتاب، تصبح سلعة تباع وتشترى لها ثمن، فهي من ناحية اخرى سلعة مفيدة تدخل سوق التبادل، وعلى هذا الاساس فان كل كاتب يحمل وجهين: الوجه الخفي الذي يؤلف ووجه المؤلف ذاته الذي ينزل الى السوق ويفاوض الناشر ويحاول انتزاع حقوقه.. ان المؤلفات يكمن تقسيمها الى اثنتين: تلك التي يحتاجها المتلقي وتلك التي يخلقها الكاتب. في الحالة الاولى يلعب الكاتب دور المصدر، اي الذي يلبي طلباً، وفي الحالة الثانية دور الباحث او الرائد الذي يغامر في اكتشاف آفاق جديدة. وفي الحقيقة، يمكن التوفيق بين الغرضين في بعض الحالات فيما يخلقه الكاتب في مرحلة اولى يمكن ان يتحول الى حاجة يطلبها المتلقي في مرحلة ثانية. من هنا، يجب التمييز دوماً بين الكتابة ذاتها وبين الانتاج الابداعي، ويجب بذل ما يمكن من جهد لتجنيب الفن الكتابي بأجناسه.. خطر الركوع نهائياً لمقتضيات السوق وحساباته.. ألم يقل سارتر عن الكاتب في (كلماته) صائباً هذه المرة، انه "كل انسان مصنوع من كافة الناس، ويساويهم جميعاً، ويساويه اي انسان آخر". ثمة عناوين في المكتبة العربية لنصوص ابداعية عديدة، تميل الى عوالم من الميتافيزيقيا والتخيل، بعيدة عن حجر الارض والارصفة والبيوت والناس، وهي عوالم مستجلبة من الذهن خالية من الوقاد بل انها موصوفة بالفوضى وبالابتعاد عن المادة الخام، وكأنها كتبت في خلوات وتحت ظلال كثبان الرمل او اشجار جزر الكناري. غير ان ذلك لا يعني ان هناك ثمة عناوين على الضد من كل هذا، تنزع الى الانسان والارض والقيم، فتقيم اعتبارها النقدي والفني على اسس مادية ومعنوية ترتقي بالنص الابداعي الى المستوى الذي يجعله خليقاً بالقراءة وبالنزوع الى التجاوز. ان النكسات العربية التي شهدها المجتمع العربي في الثلاث عقود الاخيرة ولدت نمطين من الابداع او من الادب، الاول- هزائمي طوباوي ينعى المستقبل قبل وقوعه. والثاني- يستشرف القادم ويقيم معادلة الموضوعي مع الحياة.. عبر استلهام معطياته الحياتية والوجدانية، سواء من خلال نصوص التي تسجل على ارض الواقع، وهي ارض عربية صرفة بكافة اشكال تضاريسها او من خلال الرموز الغنية التي يمكن للمبدع استنباطها منها، بحذقه ومهارته ومخيلته، وبايمانه ايضاً. وعن سؤالنا عن علاقة الكاتب مع مختلف الاطراف المتصلة به: الناشر والمتلقي والدولة.. ان اغلب الكتاب في العالم وليس في وطننا العربي وحده لا يعيشون مما يكتبون، فمعدل حقوق المؤلف بحدود (10%) وقلما توفر هذه النسبة الحد الادنى الضروري لحياة الكاتب، الامر الذي يفرض على معظم الكتّاب ان تكون لديهم موارد رزق اخرى ثابتة كالتوظيف او التدريس او الصحافة. وباستثناء بعض المساعدات البسيطة والانتقائية التي تقدمها بعض الحكومات للكتّاب، فان هؤلاء يخضعون في نهاية المطاف لقانون السوق الذي هو العرض والطلب، البيع والشراء. كذلك يتعرض الكتّاب لكل الآثار المترتبة عن الهزات الاقتصادية، فاذا زاد سعر الورق ارتفع سعر الكتاب وانخفض البيع. واذا كانت هذه الامور تشغل بال المجتمع الغربي الى هذا الحد فكم هو واجب علينا ان نشغل بال مجتمعاتنا ايضاً، حيث لا يواجه الكاتب عدوين فقط هما السوق والمطبعة، ولكنه يواجه عدواً ثالثاً اخطر منهما بكثير الا وهو (الامية) سواء أكانت امية العامة ام امية الخاصة من مثقفي الدرجة العاشرة. فعندما نقضي على امية ادعياء الثقافة نبدأ باكتشاف القراء واسترداد حقوق المؤلف المعنوية منها والمادية.
|