التطور التاريخي لاستقلال المحاماة






يلاحظ الجميع بمن فيهم المهنيون أنفسهم على طبع المحامي، عدم حبه للتبعية والخضوع ولا حبه للانبطاح. وهذا السبب يعد ربما من بين الأسباب التي جعلته يختار مهنة المحاماة لان ميوله الطبيعي هو المناقشة وإبداء الرأي إن لم نقل المجادلة بحرية ومسؤولية. 
فحياة المحامي اليومية هي الدراسة : دراسة المواثيق الدولية والدساتير والقوانين والمراسيم والأنظمة ومناقشتها، دراسة الوثائق والحجج والوقائع وتفسيرها. ويمكن القول بأن المحامي يجد متعة في البحث على كل ما من شأنه صيانة حقوق موكله أو استرجاعها.
ونعلم جميعا أيضا بأن المحامي ملزم بتقديم النصيحة والإرشاد والمؤازرة والدفاع دون مراعاة لمصالحه الشخصية ودون مراعاة لقوة خصمه. ويشهد التاريخ في هذا الصدد على المرافعات الجريئة التي تمت هنا وهناك في الكثير من الملفات السياسية ضد الأنظمة المستبدة والتي أدى المحامون بسببها ثمن جرأتهم وشجاعتهم سواء بالمضايقات أو بالتعذيب وبالسجون لإرهابهم وحتى بالمراجعات الضريبية أحيانا لتخويفهم. 
ويعي المحامي ويؤمن قبل غيره بأنه يستحيل عليه القيام بمهامه وتقديم المساعدة القانونية لموكله تحث الضغط من جهة وإن لم يكن هو أولا وأخيرا حرا ومستقلا من جهة ثانية. كما أن المحامي لا يمكنه أن يكون مستقلا إن لم يكن نزيها وحذرا ومعتدلا وشجاعا وباحثا عن الكمال بصفة مستمرة لأن المحاماة تتنافى كليا والرداءة.
فاستقلال المحامي فضيلة وقوة كان ينظر إليه من قبل الأنظمة الدكتاتورية كانحراف و كعيب لأن المهنة بصفة عامة حسب الرأي الشائع لدى البعض وقتها "لم تستطع أن تندمج داخل المجتمع" إلى حد سن بعض القوانين في السابق تمنع ليس فقط من تأسيس الهيئات بل وحتى من ارتداء البذلة بالإضافة إلى فرض قسم سياسي يهين المحامي ويحط من كرامته. 
ولم تصل مهنة المحاماة وكذا المحامون إلى الاستقلال إلا بفضل نضال المحامين المستمر وعلى مر الأزمنة إلى درجة أنه أصبح ينظر لاستقلال المحاماة كواحد من شروط قيام دولة القانون. 
فالتاريخ الجماعي للمحامين يتشكل من سلسلة أزمات وانتفاضات ومن قرارات جماعية كانت دائما تجعل السلطة الحاكمة تخضع لمطالب المحامين لأنها استوعبت في النهاية بأن أسرة الدفاع ضرورية للتوازن الاجتماعي وأنه يستحيل الاستغناء عنها.
ومن هذا المنطلق وجب علينا الوقوف على التطور التاريخي لاستقلال للمحاماة
باعتبار أن المغرب لم يعرف مهنة المحاماة على شكلها العصري إلا مع سلطات الحماية التي سنت قانون الالتزامات والعقود و قانون المسطرة المدنية سنة 1913 وبصفة أحسن مع قانون 1924 المتعلق بتنظيم هيئة المحامين ومزاولة مهنة المحاماة فإنه من الضروري دراسة استقلال المحامين خارج المغرب أولا قبل الرجوع إلى هذا الاستقلال بالمغرب.

التطور التاريخي لاستقلال المحاماة خارج المغرب

بالرجوع إلى تاريخ المحاماة بفرنسا مثلا، يجد الباحث بأن الملك لويس التاسع الملقب بسان لوي هو أول من أسس نقابات المحامين. وموازاة مع المؤسسات الدينية القائمة آنذاك فإن نقابة المحامين كانت تحدد بنفسها ولنفسها القواعد الأخلاقية المهنية التي تطبق عليها. ومقارنة مع الأب الديني للكنيسة، الذي كان يحمل عصا، فإن النقيب كان يباشر السلطة التأديبية التي ترمز إليها العصا ( Le bâton ) أيضا.

ومن جهة أخرى ودائما من باب المقارنة نجد تشابها بين بذلة رجال الدين وبذلة المحامين، هذه البذلة التي تفيد الانتماء إلى جسم مستقل، وتعطي الحصانة وتفيد المساواة. كما نجد تشابها فيما يخص السر المهني لرجل الدين الذي يتلقى بوح المواطنين بأسرارهم وبين السر المهني للمحامي بخصوص ما يفضي إليه موكليه.
وكانت الأعراف والتقاليد القديمة بفرنسا دائما خلال القرن السابع عشر تفيد استقلال المحامين حينما كانوا يرتدون البذلة المهنية السوداء كبذلتهم اليومية وفي جميع المناسبات سواء العمومية أو الخاصة بينما يرتدون البذلة الحمراء في الاحتفالات الرسمية وبالخصوص عند دخول الملك والملكة وكانوا يمشون وراء رجال الملك وبينهم عونين من البرلمان لإبراز أنهم يشكلون هيئة مستقلة عن أناس البلاط .
ولا يمكن الحديث عن استقلال المحاماة بفرنسا دون الحديث عن خطاب هنري فرانسوا داكنيسو عند افتتاح السنة القضائية لسنة 1693 حين أشاد بمهنة المحاماة من خلال استقلالها وقال : " هيئة قديمة كالقضاء، شريفة كالفضيلة، ضرورية كالقضاء، وتتميز بطابعها الخاص بين جميع الحالات وتستمر دائما وبهدوء في استقلالها المكتسب".
ومن بين الدول التي اختارت نظاما آخر وربما كان نظاما فريدا للمحاماة دولة ليبيا التي أصدرت سنة 1981 قانونا بشأن إدارة المحاماة الشعبية نص بالمادة الأولى على أن "لمواطني الجماهيرية الليبية الشعبية الاشتراكية حق الاستعانة دون مقابل بمحام في القضايا التي ترفع منهم أو عليهم أمام الجهات القضائية ". ونص هذا القانون أيضا على أنه " تنشأ بأمانة العدل إدارة تسمى (إدارة المحاماة الشعبية) تعتبر من الهيئات القضائية مقرها مدينة طرابلس".
وكان المحامي في ليبيا يعين في إدارة المحاماة طبقا للمادة 13 التي كانت تنص على أنه " يسرى على رئيس إدارة المحاماة الشعبية ووكلائها وأعضائها بالنسبة للتعيينات والأقدميات والعلاوات والإجازات ، وتقدير درجة الكفاية والنقل والندب والإعارة والتأديب وانتهاء الخدمة والحقوق التقاعدية ، ما يسرى على شاغلي وظائف القضاء والنيابة العامة المعادلة لوظائفهم . وتختص اللجنة الشعبية العامة للعدل بالنسبة لرئيس وأعضاء إدارة المحاماة الشعبية ، بما تختص به من هذه الشئون بالنسبة لرجال القضاء وأعضاء النيابة العامة" .
وكان يجوز من جهة أخرى نقل رجال القضاء والنيابة العامة وإدارة القضايا إلي إدارة المحاماة الشعبية ، كما يجوز نقل أعضاء الإدارة إلي القضاء والنيابة وإدارة القضايا بالشروط والأوضاع التي يتم بها التعيين في الوظائف التي يجري النقل إليها .
ولم يكن المحامون مستقلون باعتبار أن أعضاء إدارة المحاماة الشعبية كانوا تابعين لرؤسائهم بترتيب درجاتهم ثم لأمين اللجنة الشعبية العامة للعدل ويكون نقلهم وندبهم داخل الإدارة بقرار من أمين اللجنة الشعبية العامة للعدل بعد أخذ رأي رئيس الإدارة .
أما بجمهورية الصين الشعبية فإن مفهوم المحاماة ليس كالذي تعرفه المهنة بالدول الغربية. بل أكثر من ذلك فانه لم يكن يتواجد أي محام بالصين أثناء الثورة الثقافية ولم يبدأ المحامين التابعين للدولة في الظهور الا مع بداية سنة 1980. وحسب موقع ويكيبديا فان مهنة المحاماة لم تعرف انفتاحا إلا مع بداية سنة 1990 ليفوق عدد المحامين اليوم 200.000 محام. 
وبالرجوع إلى القانون المنظم للمهنة في الصين المؤرخ في 15 مايو 1996 فنجده ينص بالمادة 8 على أنه "يمكن للذي يؤيد دستور جمهورية الصين الشعبية وتتوفر لديه الشروط التالية أن يتقدم بطلب للحصول على رخصة العمل كمحامي".. فالقبول مشروط بتأييد الدستور وهو ما يتنافى وحق الإنسان في حرية الرأي والتعبير والاختيار. كما أنه يجب تجديد رخصة العمل سنويا. وتدقق وتراجع الوحدات القضائية التابعة مباشرة للحكومة المركزية طلبات إقامة مكاتب المحاماة، وتصدر رخصة عمل مكتب المحاماة لمن يتفق وشروط القانون.
وبالرغم من تأسيس المحامين الصينيين لروابط محلية ورابطة وطنية على مستوى البلاد تسهر على تدريب المحامين والسهر على صيانة حقوقهم واحترام واجباتهم والتوفيق بينهم، فان التأديب يبقى من اختصاص الدوائر الإدارية القضائية على مستوى الإقليم والمدينة والولاية فما فوق. وتقيم الدوائر الإدارية القضائية على مستوي الإقليم والمدينة والولاية فما فوق لجانا لعقاب المحامين تتكون من المحامين والعاملين في رابطة المحامين ودوائر الإدارة القضائية. وهذا دليل على عدم الاستقلال الجماعي للمحامين الصينيين.
ويجد المحامون عبر العالم مضايقات جمة للتعبير عن آرائهم بكل حرية ومسؤولية أو للدفاع عن حقوق الإنسان التي تدخل ضمن مهامهم سواء تعلق الأمر بإيران التي تصل عقوبة الحرمان من مزاولة المهنة إلى عشر سنوات أو بغيرها من العديد من الدول عبر القارات الخمس.

التطور التاريخي لاستقلال المحاماة بالمغرب

لم يعرف المغرب المحاماة على شكلها العصري إلا سنة 1913 مع قانون المسطرة المدنية الصادر يوم 12 غشت من نفس السنة والذي كان يسمح بممارستها للفرنسيين والأجانب الذين مارسوا المحاماة لمدة لا تقل على ثلاث سنوات. إلا أن محكمة الاستئناف هي التي كانت تبث في التقييد في الجدول وفي القبول في التمرين كما كانت هي من يعين النقيب من بين المحامين ذوي الجنسية الفرنسية. وكان التأديب من اختصاص المحكمة الابتدائية مع إمكانية الطعن بالاستئناف ولم يكن للنقيب سوى رأي استشاري إلا في حالة توجيه إنذار.
ومن غرائب هذا القانون أن الفصل 42 منه كان يعطي لمحكمة الاستئناف إمكانية تشديد العقوبة الصادرة عن المحكمة الابتدائية ولو كان المحامي المحكوم عليه هو المستأنف وحده ضدا على المبدأ التعارف عليه فقها وهو "لا يضار أحد باستئنافه".
ولم يكن المحامون مطمئنون لهذا القانون وكانوا يطالبون سلطات الحماية بإلحاح بسن قانون يحمي مهنة المحاماة من تدخل القضاء و باقي السلطات في شؤونهم ويمنحهم الاستقلال الحقيقي الذي يسمح لهم بالقيام برسالتهم. وفي سنة 1923 اقترحت الإقامة العامة مشروع قانون لم يجني منه واضعوه سوى سخط المحامين وتوقفهم عن المعمل إلى درجة أن نقيب هيئة المحامين بالدار البيضاء قدم استقالته احتجاجا على المشروع.
وهيأ المهنيون مقترح قانون تبنته سلطات الحماية هو الذي أصبح في ما بعد ظهير 10 يناير 1924 المتعلق بتنظيم هيئة المحامين ومزاولة مهنة المحاماة، الذي كان بحق تشريعا تقدميا، أعطى للمهنيين نفسا جديدا وسمح لهم بتدبير أمورهم بأنفسهم. إلا أنه لم ينص على استقلال المحاماة بصفة صريحة بل جاء الاستقلال من خلال روح تنظيم الأجهزة المهنية التي يتم انتخابها مباشرة من قبل الجمعية العامة للمحامين عن طريق الاقتراع عن اللائحة بالأغلبية المطلقة لأصوات الحاضرين بالنسبة لمجلس الهيئة وبالاقتراع الفردي بأغلبية أصوات الحاضرين بالنسبة للنقيب الذي ينتخب قبل انتخاب أعضاء مجلس الهيئة حسب الفصلين 11 و 14 من ظهير 1924.
كما برز استقلال المحامين بالنسبة لمهام مجلس الهيئة الذي أصبح هو الذي يبث في تقييد المحامين بالجدول و في الإسقاط من الجدول وفي القبول في التمرين وفي إدارة أموال الهيئة وفي التأديب وغيره. 
وإذا كان التنصيص على استقلال المحاماة بصفة صريحة على الصعيد الدولي لم يبدأ إلا مع إعلان أثينا يوم 18 يونيو 1955 الصادر عن اللجنة الدولية للحقوقيين حول سيادة القانون الذي أكد على استقلال مهنة المحاماة وتحررها من التدخل الخارجي لضمان سيادة القانون فإن التنصيص صراحة على استقلال مهنة المحاماة من قبل المشرع المغربي لم يبدأ إلا مع ظهير 8 نونبر 1979 بتنفيذ القانون رقم 19/79 الذي نظمت بموجبه نقابات المحامين ومزاولة مهنة المحاماة والذي نص بالفصل الأول على أن "المحامون جزء من أسرة القضاء، مهنتهم حرة ومستقلة". كما نص بالفصل الثاني على أن الهيئة تتمتع بالشخصية المدنية.
وصدر بعد ذلك ظهير 10 شتنبر 1993 بمثابة قانون يتعلق بتنظيم مهنة المحاماة نص بالفصل الأول على أن "المحاماة مهنة حرة مستقلة تساعد القضاء في تحقيق العدالة والمحامون بهذا الاعتبار جزء من أسرة القضاء." وسطر الظهير بالفصل الرابع أيضا على أن كل هيئة تتمتع بالشخصية المدنية.
وتنص اليوم المادة الأولى من القانون المنظم للمهنة لسنة 2008 على أن «المحاماة مهنة حرة مستقلة تساعد القضاء وتساهم في تحقيق العدالة والمحامون بهذا الاعتبار جزء من أسرة القضاء".
وبالرجوع إلى المادة 4 من القانون المنظم لمهنة المحاماة فإنها تنص على أن كل "هيئة تتمتع بالشخصية المدنية والاستقلال المالي" وهو ما يكرس دائما الاستقلال الجماعي للمحاماة.
أما المادة الثالثة من نفس القانون فإنها تفرض على المحامي التقيد في سلوكه المهني بمبادئ الاستقلال كما أن المادة العاشرة فإنها تفرض عليه أن يقسم على ممارسة مهام الدفاع بشرف وكرامة وضمير ونزاهة واستقلال وإنسانية.."
إلا أن جل القوانين المغربية ومنذ ظهير 1924 كانت تزكي الاستقلال الجماعي والفردي من خلال العديد من المقتضيات التي كانت تعطي للمحامين حق تدبير أمورهم المهنية بأنفسهم.
وبالرجوع إلى العمل الجمعوي بالمغرب فان جمعية هيئات المحامين بالمغرب ما فتئت تدافع عن استقلال المحاماة انطلاقا من مؤتمرها العاشر المنعقد بتاريخ 25-27 نونبر 1971 بمدينة تطوان تحث شعار "عدالة كريمة ودفاع حر" ومؤتمرها السادس عشر المنعقد بمكناس بتاريخ 2-4 نونبر 1978 تحت شعار "حصانة الدفاع واستقلاله ضمان لحرية المواطن وكرامته" والمؤتمر السابع عشر الذي انعقد بمراكش بتاريخ 3-5 يونيو 1982 تحث شعار "لا ديمقراطية بدون دفاع حر وقضاء مستقل". كما نظمت جمعية هيئات المحامين بالمغرب أيضا ندوة وطنية بمدينة القنيطرة يومي 12 و 13 يونيو 2015 تحت شعار "من أجل دفاع حر ومستقل" إلى جانب جميع الهيئات التي حرصت على تنظيم لقاءات وندوات لتحسيس المحامين بأهمية الاستقلال.
ويعتبر المحامي المغربي وتماشيا مع أعرافه وتقاليده بأن استقلاله هو سر وجوده ناضل من أجله منذ أزيد من قرن إلى أن وصل إلى الاستقلال الجماعي والى الاستقلال الفردي الذي توجد عليه المهنة اليوم رغم أن المجهودات والنضالات يجب أن تتواصل لنصل إلى مستوى الاستقلال الحقيقي الذي توجد عليه المهنة والمهنيين في الدول الديمقراطية النامية.