بساتين عانت الإهمال |
ان قراءة التاريخ هو بمثابة السفر الى الماضي بالروح دون الجسد، لكن هل باستطاعتنا ان نسافر اليه بالجسد والروح والخيال معاً؟! نعم ذلك ممكن في ازقة النجف الاشرف وبيوتها ومدارسها ومكاتبها فكل شيء هناك يشعرك بالماضي، الأزقة الضيقة والبيوت القديمة وكبار السن الذين اتخذوا من ارصفة تلك الازقة مؤنساً ومتنفساً لهم حتى غروب الشمس الى الأصيل والى ان يرخي الليل سدوله على مدينةٍ قديمة. سافرتُ الى الماضي في تلك الازقة ومررت الى جانب تلك البيوت ودخلتُ الى حوزة النجف بحثاً عن الأسلاف وما خلفوه من تراث وأثر، الحوزة التي رودف اسم النجف بها، اذ كلما قيل النجف تبادرت الحوزة والمرجعية والقيادة الى الأذهان؛ انّ الحوزة ليست مؤسسة او منظمة او جامعة كالجامعات الاكاديمية، اذ انها تختلف عن الفاتيكان والازهر وغيرهما، فالتحصيل فيها لا يتطلب التسجيل وملء الاستمارات ولا توجد فيها سنوات محددة ولا شهادات موقّعة بل كل ما في الامر الالتحاق بحلقات احدى الدروس التي تُقام معظمها في الجوامع والمساجد المحيطة بالحرم العلوي، جامع السبزواري وجامع الهندي وجامع الترك وغيرها، واما مسألة المبيت للطلاب المغتربين تحلها المدارس الدينية القريبة من اماكن الدرس، فإحدى تلك المدارس وأعرقها واجملها واقربها الى الصحن العلوي هي المدرسة الشبّرية التي تأسست في عام 1967م على يد آية الله السيد علي شبّر عالم الكويت وفقيهها وهو والد الشهيد الخطيب المشهور السيد جواد شبر الذي اعتقله نظام البعث العفلقي المجرم عام 1980 م من المدرسة الشبرية ليختفي اثره شهيداً مجاهداً جابه العفالقة بكل ما يملك حتى ضحى بأعزها، كما ان المؤسس السيد علي شبر يكون والد الفقيه السيد صباح شبّر العالم الفاضل الذي ذاع صيته من خلال محاضراته الفقهية القيّمة وتولى ادارة شؤون المدرسة السيد جواد شبّر بحسب الوقفية الشرعية التي كتبها المؤسس حتى يوم اعتقاله. المدرسة الشبرية تمتاز بالعمارة الاسلامية الجميلة ومسجد لاقامة الصلوات والمراثي والدروس الاسلامية وحوالي 40 حجرة لاقامة ومبيت الطلبة الوافدين من خارج المحافظة وهنالك مكتبة تقع في الطابق العلوي وهي بيت القصيد -كما يُقال-، انها العودة الى الماضي بحق، روحاً وجسداً، فالجسد بين اخشاب مكتبة قديمة تملؤها كتب رثة بورق اصفر تعود اكثرها الى سنوات العقد الرابع من القرن الماضي ومخطوطات ثمينة لم تطبع بعد، خُطت بأنامل العظماء الماضين، هذا ما يشعر به الجسد واما الروح فتسافر بعيداً على نسيم بساتين مثمرة شهية نابضة بالحياة، فهنا الأدب بشعره ورواياته وقصصه يشكل حديقة غناء تغرد فيها البلابل بفصيح اللسان وهناك التاريخ والملاحم والأساطير ومن هنا المجلات الاجتماعية والسياسية التي تعايشك احداث الشهر الذي طُبعت فيه: احداث واخبار ومقالات تخص تلك الحقبة واعلانات تشعرك بلذة ليس لها مثيل كـ(ترقبوا عن قريب التلفاز الملوّن لأول مرة في بغداد)! وما شابه تلك الدعايات والرسومات، و هنا الفقه والأصول لجميع الطوائف والمذاهب بل والأديان وهناك الحديث والتفسير ومواضيع عديدة؛ والملفت للنظر هو ان اكثر موضوع احتوته المكتبة رغم مكانتها في الوسط الحوزوي الفقهي والأصولي البحت هو موضوع الأدب وعاد كل ذلك الفضل الى قاضي البصرة وأديبها وشاعرها العلامة المرحوم السيد عباس شبر الذي أهدى صرحه العظيم الذي تمثل بمكتبته الأدبية الى الشبرية، والملاحظ ان الأدب بتعدد اشكاله وثقافاته كان محط نظر العلماء داخل الحوزة العلمية في النجف الأشرف آنذاك وان كان ذلك يدل على شيء فإنه يدل بالتأكيد على الانفتاح الحاصل آنذاك والافق الواسع في الاطلاع على الادب العربي والأجنبي، كما ان الملاحظ وجود الكتب المخالفة للعقيدة الشيعية بكثرة حتى والمخالفة منها للدين الاسلامي! بغية الاطلاع وترسيخ العقيدة والتسلح بالمعلومات الوافية والتفاصيل الكافية. فالمكتبة اشبه ببستانٍ متعدد الثمار، تتغنى النفس في التجول بين اوراقها واغلفتها وعناوينها وكأنك تذهب بقلبك الى تاريخ اقتناء الكتاب وتاريخ طباعته وكأنك تعيش تلك الأيام وتلك الحقبة، عصر ازدهار الأدب العراقي قبل ان تمسك زمام الأمور أيدٍ هدامة، همجية، حاربت الثقافة والأدب بجميع أشكاله الى يومنا هذا. |