العقود تترى تدور في ناعور القرون الذي يسكب الأجيال في سواقي المصير وبطحاء القدر , وأقلامنا تتراكض فوق سطور الأيام , وتكتب بمداد وعي اللحظة ويراع الأمل والإحساس بالحياة وبغيرها. ونتناول مواضيعَ متنوعة ونصرّح بآراء متعددة , ونمضي في نشاطاتنا التي نسميها إبداعية , فصحفنا ملأى ومواقع الإنترنيت مكتظة بالعطاءات الكتابية. وفي خضم هذا الزخم الدفاق من الكتابات يطل رأس سؤال كبير خلاصته , ماذا أنجزنا بأفعالنا ما كتبناه بأقلامنا؟! وهذا يأخذنا إلى سؤال آخر هو هل أن الثقافة كتابة وحسب؟ إن المتتبع لإنتاجنا الثقافي يرى فيه الكثير من الأفكار والتصورات الحضارية , التي (لو) عملنا على تحقيقها لدخلنا إلى آفاق العصر والتقدم السبّاق. وهذا يذكّر بدساتير الأحزاب السياسية العربية , التي تشترك جميعها في أنها مثالية وسامية ونبيلة التطلعات , لكنها وبلا إستثناء , حققت الويلات والتداعيات في المجتمع , ولازالت المسافة بينها وبين ما تدّعيه شاسعة جدا وتزداد بعدا. قالثقافة في جوهر معانيها أن تكون سلوكا , وليس تسطيرا وتصريحا ومقالات وقصائد ودراسات وحسب. ذلك أن الكتابة تضع المعايير والمنارات لمسارات الصيرورة الثقافية الحية على أرض الواقع المُعاش , أي أن الإنسان لكي يكون مثقفا , عليه أن يعكس ذلك في سلوكه اليومي , ويؤكده في تفاعله مع المجتمع الذي هو فيه. ويبدو أن صفة المثقف تُطلق جزافا في المجتمعات المتأخرة , لأنها لا تتفق والسلوك الحاصل في المجتمع , أو أن الذي نسميه مثقفا لا يمتلك طاقة الثقافة والتثقيف , التي تعني أن يكون قادرا على التأثير في السلوك الإجتماعي , وتحقيق درجة مقبولة من التعبير الإيجابي في آليات التفكير والإدراك والتفاعل الحضاري بين الناس. ويبدو ذلك جليا عندما نقارن المثقف في مجتمعات متقدمة والمثقف في مجتمعات متأخرة , ففي الأولى يكون للمثقف حضور إيجابي فعّال , وفي الثانية الحضور غائب , والتفاعل سلبي وإنفعالي ما بين المثقف والمثقف والمثقف والمجتمع. وهذه من أهم أسباب التداعيات المتراكمة في مجتمعاتنا , التي تحولت فيها العلاقة ما بين المثقف والمجتمع إلى علاقة إقصائية , وصرنا نتحدث عن النخبة أو طبقات جديدة في المجتمع تتخندق خلف جدران الثقافة والإبداع , وتترك المجتمع يتمرغ بويلات الأمية والجهل. وهذا المنطق ينطبق على سلوك الأنظمة السياسية أيضا. حيث تضرب طوقا من العزلة حول نفسها , وتحكم عن بعد وبآلة القوة والقسوة والظلم والفساد والمحسوبية. ولهذا فأن المثقف في مجتمعاتنا يتماهى في الأنظمة السياسية , ويكون كلامه معبرا عن قوتها الفاعلة في المجتمع , ويبتعد كثيرا عن هموم الناس ويتناول هموم الأشخاص والكراسي , ويحسب ذلك كتابات ثقافية , وما هي إلا تفاعلات سلبية ضارة بالمجتمع , ومؤيدة للكرسي الفاعل والجائر. وفي هذا يكمن الخلل الحضاري المروّع الذي يفتك بمسيرة الأجيال , لأن المثقف بلا دور , أو أنه قد أضاع دوره وطريقه , وتجاهل قيمته الحضارية والإنسانية , فداس الحقيقة بقدميه وكتب عنها بقلمه. فهل هذا سلوك صحيح؟!
|