التضحية بأرواح الناس لأجل سواد عيون العملية السياسة!

 

لا نرى ان هناك مسوغا لتصريحات رئيس اعلى سلطة تنفيذية في البلد، ونعني به رئيس الوزراء السيد نوري المالكي التي قالها مؤخرا في لقاء مع قناة العراقية على خلفية الطلبات التي قدمت لاستضافته في مجلس النواب، اذ قال المالكي في اللقاء المذكور "اذا ذهبت الى مجلس النواب سأجعل الدنيا تنقلب ولكن انا خائف على العملية السياسية"، مضيفا انه سيكشف، من الذي يدعم العمليات الارهابية وبأي سيارات تنفذ وبأي هويات وبأي اجازات وبأي غطاء سياسي وبأي تبن ٍ.. محذرا "سآخذ الاسماء واكشف الاسماء ولكن العملية السياسية لا تتحمل". نقول، ان الحرص على العملية السياسية لا يستدعي الاستهانة بدماء الناس وارواحهم، بل ما قيمة العملية السياسية اصلا، اذا كانت تعني فيما تعنيه التستر على الجرائم المرتكبة بحق ابرياء الشعب العراقي؛ ويزيد الامر خطورة اذا كانت تلك الجرائم تمرر تحت لافتة مجلس النواب والحكومة والعملية السياسية، و تقوم القوى السياسية بالتستر المتبادل على ملفات المشتركين فيها والمشرفين عليها. قبل ذلك واقترانا به طبعا، شاهدنا كيف جرى التعامل مع قضية اجهزة كشف المتفجرات، وصفقات الفساد التي ارتبطت بها، وكيف جرى السكوت عنها لمدة طويلة برغم عدم فائدتها وتسببها في مقتل مئات بل الوف العراقيين، حتى ان الاجهزة الامنية لم تزل تستعمل تلك الاجهزة حتى الآن في السيطرات العسكرية؛ برغم عدم نفعها وفائدتها بحسب ما كشف عنه خبراء دوليون، اجمعوا على ان تلك الاجهزة لا تنفع الا في كشف بعض المواد البسيطة التي تباع في المحال التجارية، ودفع لشرائها اضعاف سعرها الحقيقي. من نافلة القول، ان الحرص على العملية السياسية، لا يتعلق بشخص المسؤول مهما كان موقعه، بل يشمل الجميع بما في ذلك الابرياء، الذين ذهبت ارواحهم هدرا؛ بسبب فشل اداء السلطات الثلاث في البلد التشريعية والتنفيذية والقضائية، بل قد يتطلب الامر في بعض الاحيان ان يضحي المسؤولون التنفيذيون بمناصبهم، ومنهم المسؤول الاول في السلطة الذي يتوجب عليه ان يضحي بمنصبه، اذا كان ذلك يسهم في حماية ارواح الناس، لا ان يتذرع بحرصه على العملية السياسية في الوقت الذي لم يفلح البناء الذي نجم عنها في حماية ارواح الناس، ناهيك عن الفشل في اعادة البناء الاقتصادي والاجتماعي للبلد والناس. حين يتساقط الناس صرعى في الطرقات والاسواق؛ بسبب اخفاق الاجهزة الامنية والمسؤولين، فما نفع الحفاظ على العملية السياسية التي يجب ان تعني اول ما تعني التداول السلمي للسلطة واحترام حرية التعبير، وكلا الامرين جرى خرقهما في عدة مناسبات، وهما اساس واس الديمقراطية، التي بنيت على اساسها الدول والحكومات وليس محاولة اخفاء الملفات حرصا على العملية السياسية! ان الامثلة على التضحية بالمناصب من اجل تحقيق الاستقرار والبناء في الدول المتحضرة، كثيرة، وليست بنا حاجة لإعادة التذكير بها، واذا كان الوضع لدينا يسير بالمقلوب، واذا كان المسؤول التنفيذي الاول في الحكومة غير مستعد للتنازل عن السلطة حتى بعد مرور عشر سنوات من الاخفاق المتواصل لأجهزة الدولة، فان دماء الابرياء و دموع عائلاتهم وصرخات الارامل واليتامى توجب عليه ان يكون المبادر الاول لكشف ملفات الارهاب والارهابيين والفساد والمفسدين؛ بأمل ان يكون ذلك عبرة لغيره من الحكام الذين سيتبأون مناصبهم بعده، وكذلك لكي نكرس مفاهيم الدولة الحقيقية بفصل السلطات الثلاث مع التفاعل بينها بكشف المتسببين بإهدار الدماء ورفع ملفاتهم الى الجهات المعنية؛ ليتسنى للقضاء ان يأخذ دوره. وبصريح العبارة، ان العملية السياسية الجارية في العراق التي نتجت عن اسقاط النظام السابق من قبل قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، لم تحقق للعراقيين اهدافهم، التي لا تتعلق فقط بالممارسة الانتخابية المشكوك في سلامتها اصلا، بل بتحقيق العدالة الاجتماعية التي تستدعي ايصال المواطن الى حالة الرخاء المطلوب، لاسيما ان العراق يعد في طليعة الدول الغنية؛ ومع ذلك فان معدلات الفقر في تصاعد وتجمعات السكن العشوائي في اتساع افقي؛ لغياب أي سياسة اسكانية فاعلة، اما الموت اليومي بالتفجيرات والاغتيالات فحدث و لا حرج. فما معنى الابقاء على عملية سياسية بائسة، تبقي على الموت والهلاك والخراب، وكي لا يساء فهمنا هنا نقول الا بأس من الابقاء على اسس العملية السياسية الصحيحة، التي قلنا انها تعني التداول السلمي للسلطة وصيانة حرية التعبير، و لكن ازاء هذا وبموازاته يجب تفعيل عملية الاصلاح والتخلص من التشرذم الطائفي والقومي و تعديل الدستور او حتى سن دستور جديد اذا تطلب، وسن قانون عصري للاحزاب والتخلص من نظام المحاصصة والمشاركة البغيض؛ الذي كانت نتائجه كارثية على بنية البلد واعماره ويوازي ذلك بالتأكيد انشاء اجهزة امنية مهنية يكون ولاؤها للإنسان ايا كان جنسه و تفكيره، وعدا ذلك وغيره فان التستر على مرتكبي الجرائم والمجرمين يعد جريمة بحد ذاته، ولا يمكن تسويغ ذلك حتى بدواعي الحفاظ على العملية السياسية التي ارى الا فائدة منها، بخاصة ان المواطن يرى مسلسل الموت اليومي يتواصل من دون انقطاع طيلة السنوات العشر الماضية، ولا يعرف احد متى ينتهي، ولن نعفي المواطن هنا من المسؤولية في تحمل الكارثة بسكوته عما يجري من جرائم ترتكب بحقه والاستهانة بدماء ابنائه المهدورة. وما الفائدة من العملية السياسية اذا لم يجر كشف الملفات التي تسيء الى الناس اولا بأول، وعدم التهاون في تقديم مرتكبيها الى القضاء، والا نكتفي بالتلميح لها والاشارة اليها بانتظار ان يجد مرتكبوها فرصة للهرب الى بلدان اخرى والتمتع بمزايا جرائمهم واموالنا المنهوبة؛ فنكتفي نحن بإدانتهم والمطالبة بجلبهم من الدول الاخرى!