خيمة الفهد العراقية

 

 كان رذاذ المطر قد نبهني إلى من حولي وغسل وجهي معلنا ان الأوان قد حان لانتهاء الرحلة التي تمخضت عن لقاء الأحبة كان يقرأ علينا أبو مينا (ليلكم أيها الكرام سعيد) وكان أحمد ينفخ من روحه بآلته ليخرج لنا نغما يداعب ذكرياتنا الجميلة عن بغداد السبعينيات وعن أماسي محمد العاشق البغدادية وليالي يوسف عمر ،كان الكل يتمايل مع الصوت والنغم الشجي الذي استحضر أرواح كل أولئك صانعو الجمال ليقول لهم مازال فينا عرق ينبض بالجمال ،مازالت دجلة يملأ ماؤها كأس شهريار بالبهجة ،مازالت حكايا شهرزاد تلقى آذاناً صاغية من عشاق الحلم العراقي الأصيل ،

عندما توقد نار المضايف العراقية لتكون دليلا للضيف في أمسيات الفرح والربيع ،يكون للحديث طعم آخر ،عندما يجتمع العراقيون تحت خيمة الود والحب يكون للقاء طعم متميز ،كان نداءً عراقي أطلقه رجل يحمل كل المواصفات القياسية لهذا النوع البشري المتميز هذا النوع الذي علّم العالم الحب والحرف وصناعة الجمال ،وما كان بعد هذا النداء ان لبى كل من يحمل تلك المواصفات تلك التغريدة التي أطلقها (أحمد الفهد ) على صفحته في الفيس بوك أعلن فيها تجمعا لعالم افتراضي في أجواء عراقية ربيعية أزهر فيها الورد والحب ،تسابقت الأسر في الحضور كل مع سفرته التي تحتوي على أطايب الطعام العراقي ،كان اللقاء يعبر عن حب حقيقي فالأشخاص الذين التقوا لأول مرة كان زادهم الحب واللهفة لرؤية بعضهم البعض بعدما بعدت الشقة وطال الغياب وعزَّ اللقاء في زمن زرعوا فيه القبح لكن القبح لا ينمو في بلادي ،فهي مصدر رئيسي للجمال والحب ،هي تصنع كل ماهو يجعل من الإنسان إنساناً . لاأريد أن أسرد تفاصيل ذلك الحلم فالكلمات لم تعد تسعفني،فهو مطبوع على وسادتي مذ رأيته ،والحروف صارت عاجزة عن وصف مارأيت، ولغة الشعر صارت معطلة أمام أجمل قصيدة سومرية كتبتها أيدي عراقية، فهي لوحة متكاملة وحروف تحاكي تلك الصورة ،بقيت صامتا طول اللقاء أنصت لما يقول هذا الحشد العراقي الجميل ،التقط كلمة من هنا وكلمة من هناك ،أتعرف من جديد على أسلوب غاب عن المشهد العراقي منذ أكثر من عقد ،أنصت إلى أصوات نوارس دجلة كيف تحاكي طيور الفرات بحديث عبر عن شوقها،حديث ينساب من شفاه عطشى لجملة حب تقال وسط زحام البغضاء الذي زرعه الوافدون علينا عبر المحيطات ، حين بدأ (أحمد ) بإلقاء خطبته كان الكل يصغي إلى معلم التاريخ الذي سرد لنا حكاية شعب اسمه العراق ،كيف استفاق من سم تفاحة الموت التي باعها تاجر مجهول ،ذلك السم الذي جعله يرقد في سبات عميق طوال عقد من الزمان ، لماذا يكمن الشر في طعم التفاح،من زرع الخطيئة في قشر التفاح ،من أفسد علينا قانون الحب الذي وضعته السماء في تفاحة أبينا آدم وأمنا حوّاء، من غلف تلك اللهفة والشوق بسم زعاف .

تحت تلك الخيمة العراقية تجمعت كل أطايب الطعام أكلات افتقدناها من ألف عام ففي حساباتنا فكل يوم بألف ألف عام ،جلس إلى جنبي يحدثني عن روايته هذا الطاهر الهمام ،كنت مصغيا لما يقرأ عليَّ من ملحمة عراقية كتبها بأنامله ،رواية بابلية في زمن غاب عنه الرواة ،أدركنا صياح الديك فأنتبه شهريار إلى باقي الأنام ليعلن أنه حان موعد تقديم الطعام ،قمنا إلى أوعيتنا فاستخرجنا منها كل ما رزقنا الله به ،فما أكثر وأروع عطايا الباري حين تصفى النفوس وتنشد أناشيد الحب مع بعضها البعض .

لغة الزاد المقدسة عند العراقيين حين (يتمالح )بعضهم مع بعض ليصبحوا إخواناً دون قيد أو شرط ،لغة عراقية لايعرفها الكثير ،فالزاد مقدس عندنا ومن يأكل بماعون احدهم صار أخاً له ومحرّماً عليه كل ما يمس هذا الأخ ، فترانا نتسابق لإعداد هذه الأطايب التي نشرناها في ساحة خضراء لننشر الحب مع هذه الأطايب .أكل الكل من هذه السفرة المتنوعة وكل أكلة كانت تمثل جانبا مضيئا عراقيا (الدولمة)كانت ترمز للمطبخ البغدادي و(القيسي) كان هو رمز آخر (والسمك ) و(الفسنجون) ووووو….دارت تلك الطيور على تلك المائدة الربانية وكان العيد عراقيا خالصا . (ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين )