إستذكاراً للذكرى السنوية/13 لإحتلال العراق.. كيف تعمّد الأمريكيون تدمير العراق


لم يكن عدد العساكر الأمريكيين عند غزوهم العراق عام (2003) قاصراً بل زجّوا (135,000) جندي معزّزين بمئات الدبابات والمُعدّات المتطورة تسندهم المئات من أفضل الطائرات في العالم وأقذرها، ولكنهم لم يستطيعوا تحقيق الأمن بهذا البلد ليوفوا بوعودهم الخلابة في تخليصه من ((حكم دكتاتوري-شمولي-دموي بغيض!!! حسب تعبيرهم)) وإعماره كي يجعلوه نموذجاً يحتذى به ليس في هذه المنطقة بل بمستوى العالم كله... وعوضاً عن ذلك إقترفت القيادات العسكرية الأمريكية و"سلطة الإدارة المؤقتة" جملة أخطاء تشوبها الظنون في كيفية إقدام دولة عظمى ذات مصالح عالمية عليها؟؟؟!!!لذلك فلدى إستذكاري لتلك الأيام العصيبة لا أستشعر إلا بمفردة تقفز إلى ذهني يوم إلتحقتُ برتبة "نقيب" تلميذاً في "كلية الأركان العراقية" عام (1973) لنتلقى دروساً أساسية في (واجبات الأركان) نصّت إحدى مفرداتها:-((تشكل قيادة الفرقة "حكومة عسكرية للشؤون المدنية" حال دخول تشكيلاتها أية مدينة، سواء أكانت في أرض العدو أم متمردة على سلطة الدولة)) وكان وجوباً علينا أن ((ندرخ)) عن ظهر قلب جميع الإجراءات والخطوات التي يجب أن تقدم عليها تلك ((الحكومة المُفتَرَضة))، والتي تتسلسل كما يأتي:-1. حظر التجوال في عموم المدينة وإعلان الأحكام العرفية فوراً.2. إستدعاء قادة الخصم –السياسيّين منهم والعسكريّين والإداريين- ليوقعوا وثائق إستسلام أصولية ولو توجَّبَ ذلك إستخدام القوة المسلحة.3. إجبار أولئك القادة على إصدار الأوامر إلى مرؤوسيهم لتسليم أسلحتهم إلى مواقع مُحددة وفق منهج زمنيّ.4. فرض الحِفاظ على مؤسّسات الدولة وممتلكاتها ومُحتوياتها.5. إصدار أوامر جازمة لقادة الأجهزة الأمنية وضباطها وأفراها للإلتحاق بمراكزهم.6. إجبار أطباء المدينة المحتلة ومنتسبي مستشفياتها وموظّفي دوائرها الخدميّة ومحطّات الوقود والمخابز لتأمين المتطلبات اليومية لمواطنيهم.7. تشخيص المُسيئين والمشكوك في ولاءاتهم إبتغاء حجزهم أو تقييد حريّاتهم.
ولمّا لم يتّخذ الأمريكيون أياً من تلك الخطوات، ويفترض أنهم أصحاب خبرات متوارثة في إحتلال أقطار وتأريخهم مليء بإسقاط حكومات، فقد إستغربنا -نحن ضباط الأركان السابقون- من هذا التصرف المُريب، والذي تمخّض عنه فقدان الأمن والأمان في بلد كان يتحكم به نظام طالما وصفه الأمريكيّون أنفسهم دكتاتورياً وشمولياً ذا أجهزة أمنية لا تعرف الرحمة... وذلك ما جعل العراق فور إنهيار نظامه عرضة للنهب والسرقة والتدمير والحرق، أعقبها قتل بالجملة وبمعدّلات يوميّة ولغاية يومنا هذا... فهل يُعقَل أن "واشنطن" لم تُخطّط لِما بعد إحتلال العراق كما يزعم البعض؟! وأن "البنتاغون" أو الخارجيّة الأمريكيّة لا تدركان هذه الأمور!! وهل أن القادة الأمريكيين لم يتلقوا دروساً مشابهة لمحاضرات الضباط العراقيين في كلية أركانهم المتواضعة؟! وكيف يدير القادة الأمريكيّون العشرات من القواعد الضخمة في العالم لحماية مصالح دولتهم العظمى والغرب وسواهما، إن هُمْ ليسوا على دراية بمثل هذه الأمور المبدئية والأساسية؟؟؟
أما الأخطاء اللاحقة، فكانت نتائجها أنكى وأمرّ من سابقاتها، ومن أخطرها حلّ المؤسسات الأمنية، ثم وزارتي الدفاع والإعلام تباعاً، وإعتبار منتسبيها بمثابة مُنحَلّين/مطرودين، ما أكسب الأمريكيين مئات الآلاف من الخصوم المقتدرين على إستخدام السلاح والحاقدين على الإحتلال، بعد أن قُطِعَ عليهم مصدر رزقهم، ناهيك عن إستشعارهم بالإهانة... وفوق كل ذلك لم يقدموا على أية خطوات جدية لسحب الأسلحة المتنوعة وآلاف الأطنان من المتفجرات المتنوعة من بين أيدي الذين ثبت أنهم إصطحبوها أو سرقوها وخبأوها في مزارعهم وقراهم وبراريهم... ثم شكلوا "مجلس حكم مؤقت" هزيلاً على أسس عرقيّة وطائفية ومذهبية، وعيّنوا الأغلبية العظمى من أعضائه ممن كانوا مقيمين خارج العراق لعقود، بحيث لم يستطع معظمهم أن يتفهم واقع العراقيين وظروفهم وإرهاصاتهم وبالأخصّ خلال الأعوام العشرة الأخيرة من العهد السابق... ثم أسسوا "هيئة إجتثاث البعث"، لتتخذ قرارات بفرض ((عقوبات جماعية)) بحق الملايين من العراقيين المنكوبين الذين كانوا قد اُضطُرّوا للإنتماء إلى صفوف ذلك الحزب لتسيير حياتهم اليومية... ثم ألغوا جميع دوائر الدولة العليا ونهبوا ممتلكاتها وحرقوها، وإعتبروا منتسبيها مطرودين من الخدمة بلا حقوق ولا رواتب تقاعدية ولغاية يومنا هذا... وأعادوا تشكيل "الشرطة العراقية" بلملمة أشخاص من الشارع العراقي، ومن دون تحقيق هوياتهم ومواضيهم، وأخفقوا في تسليحهم وتجهيزهم بمعدات مقتدرة يمكن أن يتفوقوا بها حتى على ما لدى الجناة والعابثين... وماطلوا في إعادة تشكيل بعض الجيش العراقي، وشكلوا أول أفواجه على أسس غير مدروسة وبرواتب بخسة وبأسلحة بسيطة... ولم يكترثوا بظاهرة البطالة التي عمَّت الشارع العراقي، في حين منحوا أعضاء "مجلس الحكم" وكبار مسؤولي الدولة رواتب ومخصصات تبلغ عشرات الآلاف من الدولارات، حتى تساءل المواطن العراقي عن ماهية الفرق بين ترف مسؤولي النظام السابق و((رموز))"العراق الجديد"... وأهملوا معضلات خطيرة في مجالات الكهرباء، المجاري، الشوارع، المحروقات، فتضاعفت أثمانها في السوق السوداء إلى عشرات أضعاف أسعارها الرسمية...وقد شابت العنجهية جنودهم في دورياتهم ومداهماتهم للبيوت، وثبتت بحقهم سرقة النقود والذهب، وكذلك المال العام من المؤسسات الحكومية وأمام الأنظار دون أن يجرأ أحد المسؤولين العراقيين الجدد ولو بإطلاق كلمة واحدة بحقهم... ولم يتخذوا خطوات جادة للسيطرة على التسلّل والتهريب عبر الحدود السائبة، أو إعادة تشكيل قوات الحدود العراقية بإستدعاء منتسبيها السابقين ليرابطوا في مئات المراكز الحدودية مع (6) دولة جارة... وقد سمحوا لزعماء الأحزاب وكبار إداريّي "العراق الجديد" أن يستحوذوا على قصور فارهة تركها قادة النظام السابق وأقرباؤهم فإتخذوها مساكن لشخوصهم ومكاتب لأحزابهم ومراتع لراحتهم وإستجمامهم، ما أثار إرهاصات مشهودة لدى عموم العراقيين... وقد حصروا مفهوم "الأمن" في مجرد الحفاظ على قيادات وأفراد قوات التحالف وكبار المسؤولين العراقيين، وملأوا الشوارع بجدران كونكريتية مزعجة كلفت مئات الملايين من الدولارات من ميزانية "العراق الحر"... وقطعوا الجسور، وإعتبروا أجزاء مهمة من بغداد والعديد من المدن الكبرى مناطق محرّمة على عموم العراقيين... وقد فشلوا في إعداد دستور إنتقالي للبلاد، وفرضوا عوضاً عنه "قانون إدارة الدولة المؤقت"، ما أفسح أكثر من مرتعٍ خصب لصراع عنيف على السلطة في أي ظرف سانح... بينما أمضى"المدير الإداري لسلطة الائتلاف" والرئيس الدوري لمجلس الحكم بعد محادثة قصيرة على إتفاقية غير واضحة المعالم تقضي بنقل السلطة إلى حكومة عراقية مؤقتة، ومن دون تهيئة أرضية ملائمة لهذه الخطوة الخطيرة والحساسة.ولذلك فلمّا بُنِيَ ((العراق الجديد)) على أُسس عوجاء وتحت طائلة تصرّفات عرجاء وخطوات رعناء، فقد مال بناؤه وترنّح، ويبدو على أكبر الظنّ أنه إن لم يكن آيلاً إلى الإنهيار، فإنه سيظلّ أشبه بمُصاب بـ((طفرة وراثية)) أو مرض عضال لا يُرجى شفاؤه حتى يكتشف العلماء دواء ناجعاً ربما يُعدّل بعضاً من إعوجاجه.