نستذكر اليوم قيمة استشهاد الامام محمد باقر الصدر، في 9 نيسان 1980، في حدث تاريخي، طبع العراق ومستقبله بألوان وخطوط تحتاج للتمعن، وقتا طويلا؛ لاستنباط دلالتها، ومقدار الطاقة آلتي ولدتها، لتشغيل متناقضات القوى المحركة للمجتمع العراقي، وهذا هو اليوم نفسه الذي تم فيه تغيير النظام السياسي في العراق، العام 2003، وقد تكون الإرادة الإلهية هي من جمعت المناسبتين، او قد تكون من غير ميعاد.
في السبعينات، ونحن في البصرة، باعمار متطلعة للحياة.. طامحة للمشاركة في فعالياتها، كانت الصراعات السياسية والفكرية تمتزج مع دوافع الثقافة الفطرية الكامنة في ذواتنا.
الصراع على أشده بين فكر حزب السلطة (البعث) بكل امكانياته المادية، والإغراءات الممزوجة بروح التهديد والوعيدن وبين الثقافة الشيوعية التي تحاكي حرمان الفئات الاجتماعية؛ لضخ الفكر الماركسي ممزوجا بشواهد الحياة في الدول الاشتراكية.
غالبا ماكان النقاش، يجري في ممرات وساحات كلية الطب، منتهيا بتهديد ابناء حزب السلطة للفئات الاخرى. بين قطبي النقاش، فض احد الزملاء أوراقا مطوية، وطلب منا قراءتها؛ تعميما للفائدة، وهو يتلفت يميناً ويسارا، ويحاول ابعادنا عن الأنظار قبل وضع الأوراق في جيب الصدرية، وبعد الحصول على مكان آمن، فتحنا الاوراق وعددها عشر مطويات، مكتوبة بخط اليد نقلا عن كتاب (غاية الفكر في علم الفصول).. وقع نظرنا على اسم مؤلفه السيد محمد باقر الصدر، مبهورين بعمره، عند تأليف الكتاب.. كان بأعمارنا نفسها.
قرأناها شغوفين بمحتواها، عالي المنهجية يسير الفهم، متسائلين: كيف لشاب من العراق ان يتحدث في علوم اللغة والاصول والتاريخ والدين بهذا المستوى؟ ويناقش الفلاسفة والعلماء ويرد آراءهم؟ ونحن نستحي الحديث وتتلعثم الكلمات بين اللسان والشفتين؟ ويتعرق الجسد؛ عندما نواجه الجمهور؟ وننفعل عندما تدحض اراؤنا؟ إذن لابد لهذا السيد مميزات هائلة، ومواهب عقلية وأدبية، كبيرة وسعة أفق ارتبطت بحبه للبحث عن الحقيقة ومحاولة تجسيد ما يتجمع في خاطره للفائدة العامة وتحقيق مبادئ عليا في الحياة الدنيا و تأمين موقعٍ في الاخرى.
ردفنا بصدمة كبرى؛ عندما تسلمنا أوراقا من كتابي ( فلسفتنا) و (اقتصادنا) لأننا لم نستطع فهم محمولاتهما.. عبارات وكلمات غريبة على مسامعنا.. مناقشة واعتراض على مفاهيم وجمل نرددها، جاهلين خفاياها ونحتاط عند الحديث بها مثل الديالكتيك والماركسية و الجرأة في تفسير الكون والحياة ومناقشة الاقتصاد السياسي وقوانينه ومفهوم النظام الاقتصادي الاسلامي، ثم اطلعنا على مقتطفات من كتاب (رسالتنا) الذي أكد لنا الحقائق أعلاه، التي صعقت اجسادنا وهزت كياننا هزا عنيفا، والظاهر ليس نحن فقط من صعق مرتجف، إنما الحكومة ايضا.. برجالها و مؤسساتها، سرى فيها تاثر الفلاسفة والعلماء والمفكرين وهذا ما لم نكن نعرفه ونحن بين ملازم المحاضرات وقاعات الدروس وردهات المرضى، الا بعد تكرار سماعنا لاختفاء بعض الزملاء من بيننا، طالتهم يد الامن إعتقالا، وبالتالي الإعدام؛ لحملهم افكارا تهدد كرسي الحاكم وتفضح ضحالة تفكيره.
تبين انهم يتبعون حزب السيد الصدر، تزامنا مع التنكيل بحملة الفكر الماركسي وبعض اصحاب الرؤى المستقلة.. المتنورة.
نال الجميع.. بالرغم من أختلافاتهم العقائدية، المصير نفسه، من قبل سلطة لا تؤمن بالراي الاخر ولا تتقبل المساس بعنجهيتها.
ثمة سوْال نكرره دوما، من دون مناسبة.. بل مناسبته مفتوحة: هل لاصحاب المبادئ السياسية والفكرية تصور عن دور مبادئهم في بناء البلد وتأمين مستقبله وتحديد شكله الحضاري؟ وكان الجواب من اصحاب السلطة بـ: "نعم" معززة بإنجازات القيادة ومواقفها الوطنية والقومية وروح التغيير والعزم والشباب وعظمة السلطة التي يهيمنون بها مقتربين من القضاء على الأفكار المناوئة، وجاء ألجواب ايضا من حملة الفكر الماركس بنعم بدليل انتشار الفكر الاشتراكي في العالم وسيطرته على نصف العالم وتعادل القوة بينهم والدول الرأسمالية، والواقع يشير الى ان أفق انتصار الاشتراكية مستقبلا واردا؛ فالاتحاد السوفيتي سيساعد باللين والقوة، قوى التحرر في العالم، اما اصحاب السيد الشهيد الصدر الاول؛ فكانوا يرددون النعم ويستشهدون بعدالة الدين وقيمه وتاريخ الأنبياء و الأئمة وصلابة إيمان الامام علي.. عليه السلام واولاده، وما واقعة "ألطف" الا تجسيد حي لمنطلقاتها الفكرية، ولكن ليس هناك على ارض الواقع نموذج يمكن تعزيز الرأي فيه وكانوا ياملون الحصول على فرصة القيادة لتحقيق إفكاره و رؤاه، وتجلت فرحتهم الكبرى بانتصار الثورة الاسلامية في ايران، عارضين علينا فكرها، مؤكدين: "ان هذا هو الفكر النموذجي، من عطاء السيد الصدر (قدس سره) فماذا لو تسلم الحكم في العراق؟ أجابونا بان العراق سيكون أحسن دولة في العالم؟ وبالرغم من عدم قناعتنا بستراتيجيتهم، وغير متفقين بل ومعترضين على بعض طروحاتهم، الا اننا كنّا نحلم بما وعدونا، وكان لنا الحق في هذا الحلم، ولنا ان ننتظر اليوم الذي يتسلم خلالها الرجال الذين يحملون أفكار السيد الشهيد "قدس سره" القيادة متسلحين بالمبادئ والأفكار ، ومرتدين رباط الإيمان وحاملين راية التقوى املنا في ذلك الاقتداء بقدرة السيد قدس سره وحصانته ضد الفساد ورفضه للمناصب ووقوفه بوجه طاغية العراق.. المقبور صدام حسين، وجلاوزته بشهادة حواره وردوده ورفضه تسلام اي منصب مفضلا الاستشهاد (بالتيزاب) على ملذات الحياة، ليكون مقربا من ربه ضامنا مكانه في جناته، تاركا إرثا نضاليا ومنارا للإقتداء وشد العزم.
ترك لنا فكره الفلسفي والاقتصادي ورجالا يسعون للسلطة؛ فدالت لهم، لكن ليرفعوا صور السيد قدس سره على أبواب مقراتهم غالقين كتب فلسفتنا واقتصادنا وواضعيها فوق رفوف عالية، ويعملون بهدي غرائزهم وفق مصالح بمستويات عالية الفساد.
ماذا لو بُعِثَ آية الله العظمى الشهيد محمد باقر الصدر.. قدس سره الشريف، وزار المقرات المتوارية خلف صوره، باحثا عن القيم والمبادئ العظيمة، التي ضحى بروحه من أجلها، هل سيجدها؟ أشك بذلك.. وأنا أكيد الشك.