اللغة من مقومات الشخصية؛ فهي الإطار الذي يحفظ كيان أصحابها ويحدد هويتهم، وهي مرآة العقل ووعاء الأفكار، وأداة التفكير، كما أنها وسيلة النضج الذهني، وأهم مظهر يتجلى فيه إبداع أبناء الأمة. وبقاء الأمم وتقدمها مرتبط بتشبثها بأصولها المتمثلة في لغتها ودينها، وتمر الأمة الان بمرحلة حضارية خطيرة في حياتنا المعاصرة، وإذا لم تتفهم هذه المرحلة وتهضم ما فيها من جديد، وتلحق بالتيارات الحديثة ضاعت شخصيتها بين تيارات الحضارة الجديدة، ونسيت تراثها وأصالتها؛ لأن الأمم القوية ستفرض عليها علمها وثقافتها وآدابها عن طريق التطور الحضاري المتقدم.. ومنح القران الكريم اللغة العربية التقديس لتكون لغة إعجازية مقدسة، وكانت وعائا للفكر الإسلامي الوليد وكذلك لغة النهضة العلمية الوليدة. دخل العرب القرن العشرين عراة لا يملكون من مقومات الحضارة شيئا حتى لغة الشعر إبداعهم الوحيد كانت قد ماتت قبل الدخول، و بعد محاولات التململ العربي للنهوض اكتشف العرب وجود العلم و التكنولوجيا الحديثة فاكتشفوا بذلك عجز لغتهم عن استيعاب ما وجدوه بعد هذا السبات.. اللغة العبرية بقيت منسية 15 قرنا من الزمان.. وأحياها اليعازر بن يهودا في 40 عاما، ابن يهودا آمن بألا وطن بلا لغة ولا لغة بلا وطن.. ومع أن استخدام العبرية في الحياة اليومية لم يكن سهلا منذ البداية؛ فاللغة التي نسيت لمدة 15 قرنا كانت تفتقر إلى كلمات كثيرة مرتبطة بالحياة اليومية.. أما اللغة العبرية التي كانت منسية يوما، وحلم بن يهودا بإحيائها، وتحمل التحدث بها وحده منذ زمن، هي الآن إحدى اللغتين الرسميتين لـ "دولة إسرائيل"، ويتحدث بها ما يقرب من 9 مليون شخص حول العالم، معظمهم على الأرض التي تصورها ابن يهودا يوما أرض الوطن لليهود ولم تحقق ما حققته من مكانة لتصبح اللغة الوطنية لما يعرف باسرائيل إلا نتيجة لتنامي الشعور الوطني والإرادة الجماعية لليهود. وما يلفت النظر في التجربة اليهودية السرعة المذهلة في تنفيذها وفاعليتها، وشمولها كل مناحي الحياة داخل الدولة، سواء كانت اجتماعية أو تقنية أو تعليمية، كما لا ننسى أن الوعي بالهوية والقومية دفع فرنسا إلى تنقية لغتها من التلوث اللغوي الذي أصابها من مفردات الانجليزية: فهناك قانون حماية اللغة الفرنسية أقرته الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1994م نص على "حظر انعقاد المؤتمرات العلمية التي تتخذ الإنجليزية لغة للتداول". كما تدخل البرلمان الفرنسي لحماية اللغة حين وضع قائمة سوداء من الكلمات التي يحظر استخدامها في الإعلانات والمدارس والحكومة والمؤسسات، كما رسمت فرنسا سياسة لغوية لجأت فيها إلى سن القوانين بما يحفظ للأمة مظهر حياتها العقلية؛ فاستطاعت الحفاظ على اللغة الفرنسية. ونلحظ أن الانجليزية البريطانية تحرص على تنقية نفسها مما يصيبها من تلوث من الانجليزية الأمريكية... ان قابلية اللغة على استيعاب وصف آلة أو البحث عن أسماء لمخترعات يعطيها القابلية والقدرة لتكون لغة للعلم هو تبرير ساذج. وما يذهب اليه العرب لاشتقاق مصطلحات عربية مقابلة لمصطلحات العلوم المعاصرة ووضعوا القواميس لها، هو ركض وراء سراب، لأن العرب الآن ليسوا منتجي علم بل متقبلين لبعض مما ينتج وما على اللغويين إلا متابعة ما يستجد للبحث عما يرادفه و بصورة مستمرة و دائمة. إن لغة العلم ليست مجرد وعاء استيعاب لنقل ما هو موجود. ان للغة العلم مميزات خاصة بها: - أنها لغة حية علميا و هذا يعني البحوث العلمية الجديدة أول ما تكتب تكتب بلغة العلم المقبولة عالميا. إنها اللغة التي تنتج مصطلحات جديدة يتم الترجمة عنها باستمرار، فلغة العلم لغة منتجة للمصطلح إضافة لكونها قابلة للترجمة. - أنها لغة واسعة الانتشار علميا وليس المقصود هو عدد المتكلمين بها بل عدد مراكز البحوث التي تعتمدها، وعدد الدوريات التي تصدر بها وعدد الكتب التي تكتب بها والمؤتمرات التي تعتمدها كلغة مقبولة. أنها اللغة التي تجمع ما بين القدرة على التوضيح مع استخدام الرموز من (حروف وعلامات) لكتابة العلاقات العلمية والرياضية - أنها اللغة التي تتعامل بها دور النشر العالمية لقد بدء النشر العلمي الأكاديمي في حدود القرن السابع عشر وما زال متواصلا و خلال هذه الفترة استطاعت اللغة الانكليزية من التوائم مع الكتابة و الطباعة العلمية، كما أن تقاليد النشر العلمي تأسست خلال هذه المدة التي كان العرب فيها منقطعين عن الحضارة العالمية. كما أخذت بالتشكل طريقة الصياغة اللغوية للحقائق العلمية و طريقة كتابتها. و توجد الكثير من الدراسات حول قدرة اللغة في استيعاب العلوم وتتصدر اليوم اللغة الانكليزية اللغات العلمية العالمية بسبب سعة انتشارها كما انها أخذت بالتوسع وقبول مصطلحات ورموز من لغات أخرى كما كان الروس ضمن فترة ما يعرف بالااتحاد السوفيتي ينشرون بحوثهم بلغتهم، وهذا يعني أن المنظومة العلمية الروسية كانت كاملة وتحوي مؤسسات نشر علمي من كتب ومجلات بحثية. وبغية الاستفادة من البحوث السوفياتية اهتم الغرب في تأسيس مؤسسات متخصصة في ترجمة المنشورات العلمية الروسية كي يكون الغرب على قدم المساواة مع ما يكتشفه السوفيات مما تقدم نجد أن لغة العلم ليست مجرد وعائا يمكن تبديله بالترجمة بل مؤسسات توفر لقرائها البحوث السابقة والحالية إضافة إلى توفيرها الكتاب العلمي (الأكاديمي) بمستوياته المختلفة ان اللغة العربية الآن ليست لغة علم وهذا ليس لقصور ذاتي تعاني منه بل لقصور الإمكانات العربية الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. الترجمة العلمية يجب أن تشمل الدوريات القديمة والحديثة والكتب الأكاديمية وبمختلف الاختصاصات. المشكلة الأساسية وراء ذلك كانت يوم تخلى العرب عن العلم منذ قرون فخنقوا لغتهم وحنطوها. فهل سيتمكن العرب المعاصرون من إعادة اللغة العربية إلى العلم..؟
|