اليوم المشؤوم |
لو كان هناك مقياس كمقياس ريختر الذي يقيس درجات الحرارة ،يقيس درجات الفرح والابتهاج في داخل النفس البشرية , لأستطاع أن يثبت بقدرته الفنية إن درجة فرحي وابتهاجي وسروري أنا كاتب هذا المقال بيوم التاسع من نيسان عام 2003م إنها كانت في قمتها ، وذلك لحالة النشوة التي أصابتني وأنا أتابع حركة التغيير وإن كانت بطريقة مؤلمة للغاية كون المنقذ أجنبيا رديئا , وذلك كون الخلاص من النظام السابق قد شكل أمنية من أمنيات الناس في العراق خاصة في السنوات العشرين الأخيرة حيث بدأ التراجع يثّبت وجوده في البلد في الوقت الذي أخذت فيه بلدان المنطقة بالتطور والتقدم . هكذا إذا كان الحال يوم التاسع من نيسان 2003 م فما الذي حدث وتغيرت الأحوال وتبدلت الرغبات وركدت في قاع الحياة الأمنيات. فالحياة في العراق بشكل عام بعد التاسع من نيسان تبدلت وأخذت تدريجيا تظهر بصورة تختلف تماما عما كانت عليه قبل ذلك التاريخ , الحال هنا ممكن أن تسبه إلى نوع النظام السياسي السائد وتأثيراته على حياة الناس من خلال مجمل تدخلاته التي يقوم بها لتنظيم الحياة عن طريق القوانين والضوابط المعمول بها. تبدل حال الناس ،جاء بتبدل نوع النظام السياسي من نظام متشدد في ملاحظة الظواهر الاجتماعية مما استدعى إصدار قوانين تتدخل في شأن الحراك الاجتماعي وتأثيراته على السلوك الجمعي العام , إلى نظام متساهل أراد من خلال بداية تسلمه السلطة السياسية في البلاد تحت لافتة النظام الديمقراطي أن يتعامل مع الشأن الداخلي بتراخ ،أدى بالتدريج إلى إحداث حالة من الفوضى رافقة ظهور موجات المد الطائفي بين الناس ،بسبب تأثيرات الإسلام السياسي الذي أعتلى السلطة في العراق بجانبيه السني والشيعي مما أثر بشكل مباشر على العلاقات الاجتماعية والأسرية بين مكونات المجتمع التي لم تكن تعاني التصدع الطائفي قبل ذلك التاريخ بسبب تدخل الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد منذ مطلع القرن الماضي حتى التاسع من نيسان عام 2003م في تنظيم حالة الوجود العقائدي وفق الدساتير التي أشارت إلى ذلك ونظمت طقوسه بشكل ملائم لحالة المجتمع كونه مجتمع متعدد الاتجاهات الدينية، فضلا عن ذلك فان غياب الإسلام السياسي عن الواجهة كان كفيلا بذوبان ذلك المد الطائفي الخطر. حالة التراخي التي أشرنا إليها أدت إلى ظهور سلوكيات وممارسات على السطح في معظم جوانب الحراك الاجتماعي إن لم تكن كلها , حتى أصبحت الفوضى هي الحالة السائدة فلا وجود للقانون , سائق الأجرة يضع أجورا بما يراه مناسبا له ،والطبيب في الجانب الآخر يضع الأجرة التي يراها هو مناسبة له , الناس أخذت تتجاوز على أملاك الدولة , شرطي المرور لم يعد كما كان رائدا ومخيفا ،الشرطة المحلية , تعددت وتنوعت لكن جُلها فشلت بنسبة كبيرة في أداء واجبها حتى أصبح (لأم الخضروات ) مكان في ساحة باب المعظم وساحة الطيران تبيع خضرواتها وبنجاح ساحق , المدرس تهاون في عمله وظهرت على السطح حالات التدريس الخصوصي وكأنها هي الأساس بالتعامل مع الجانب التربوي في البلد , السيطرات تعيق المارة والتفجيرات قائمة على قدم وساق ،الشوارع جُلها مغلقة وعدد السيارات بازدياد , أمانة العاصمة لملمت حاجاتها ورحلت بعملها وليس بوجودها ولم تعد لبغداد عاصمة التاريخ ،جهة تعمل على إعادة الحياة الجميلة الزاهية إليها , لا نظافة قائمة ولا مجاري شغالة ولا منتزهات مدامة , كل شيء تحس به وكأنه يمشي على رجل واحدة متلكئا عاجزا .المال العام أصبح مشاعا للحركات والأحزاب الحاكمة , لا خدمة للبلد إلا وفق ضوابط تغذيها المحاصصة اللعينة التي ساهمت بتمزيق هوية البلد الذي أصبح في قائمة بلدان العالم تخلفا من ناحية التطور والبناء وفي كل المجالات تقريبا. سمة غالبة الفساد هو السمة الغالبة على العمل السياسي ومرفقاته التي تصب في الجوانب كافة ،الخدمية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية , حتى إن مؤسسات الدولة ومنظماتها المدنية وهيئاتها المستقلة وغير المستقلة زائدا الجهاز القضائي كل أولئك لم يستطيعوا أن يوقفوا آفة الفساد من أن تلتهم المال العام الذي لو كان بأيدي أمينة لتحول العراق لواحد من أرقى بلدان العالم.الجيش لم يكن كما كان واحدا من أرقى جيوش المنطقة بعد أن قررت الإدارة الأمريكية بمباركة أحزاب السلطة ،أن تفككه وتلغي تاريخه البطولي وتعمل على بناء جيش آخر أخذ بالتدريب في بلدان الجوار التي ساهم العراق ببناء جيوشها قبل أكثر من خمسين عاما. المستشفيات خاوية , والأمراض منوعة وعديدة ومؤثرة بعد أن أصبحت البيئة العراقية مملوءة بالغازات والإشعاعات المؤثرة ,حتى غدا العراق من أكثر بلدان العالم في ظهور الأمراض بكل أنواعها وبالأخص مرض السرطان. الجامعات تدنى مستواها العلمي حتى غدا تسلسل جامعة بغداد قبل عامين أو أكثر (54 ) على الجامعات العربية أي هناك أكثر من (53 ) جامعة عربية أفضل من جامعة بغداد , تلك التي كانت في المقدمة قبل عقود مضت.علاقات الناس مع بعضها قد تغيرت , مصلحة الفرد أصبحت الأساس في التعامل حتى نسى المجتمع تلك الضوابط الرائعة والمنسجمة التي كانت تحكمه.لم تكن علاقة الناس يبعضها هي من تأثرت في الأوضاع السلبية السائدة في البلد , بل علاقة الناس بالدولة والمصلحة العامة تأثرت هي الأخرى ,إذ أصبح الإخلاص بالعمل صفة لا توجد إلا لدى القليل من الموظفين والعاملين في قطاعات الدولة كافة والسبب هنا واضح وجّلي ومبني على أساس المقولة التي فحواها (الناس على دين ملوكها ) الصناعة في البلد لا وجود لها إلا ما يتعلق بالقليل القليل من الإنتاج الذي لا يسد أكثر من 5-10 بالمائة من الحاجة وفي جوانب استهلاكية معينة لا قيمة لها ,الزراعة تعاني نفس التراجع فهي أيضا لا تعدو كونها ثروة كبيرة أخذت بالتراجع بعد إن فسحت الدولة للمنتوج الخارجي أن يغزو البلد وبقوة ،فأصبح فطورنا من تركيا ،وغداؤنا من إيران ،وعشاؤنا من السعودية والأردن ،أما ملابسنا وبيوتنا ومحلاتنا ،فأن عملية تنظيفها تعتمد بالمباشر على المنتوج السوري , خضرواتنا والفاكهة التي نتناولها لنسد بها المنافذ أمام فقر الدم الذي أصبح من الأمراض المنتشرة في العراق فأن دولا أخرى كفيلة بإرسالها إلينا كالبنان ومصر , تصور أخي الكريم حتى الفجل والخس أخذ العراق بلد السواد وصاحب النهرين العظيمين يستوردها من الخارج , المهم البطالة تخنق الناس والحياة أصبحت لا قيمة لها فقد فقدت مقوماتها الأساسية بعد أن تدهور الوضع الصحي والاقتصادي والعلمي وانعكس ذلك كله على الواقع الاجتماعي بعد تدهور أوضاع أسعارا لنفط ووصولها إلى مراحل متدنية بسبب سوء استخدام السلطة وعدم الاهتمام بمصلحة الناس حتى غدا البلد على وشك الانهيار , هذا هو جزء بسيط وصورة صغيرة لواقع كبير متدني يعيشه الناس هنا في العراق ،وذلك كله على المستوى الداخلي , أما على المستوى الخارجي فحدث ولاحرج فقد أصبح العراق ألعوبة بيد دول الجوار بعد إن كان أسدا يخشاه الناس بقوته العسكرية واقتصاده القوي قبل عقود من الزمن , مخابرات دول العالم جُلها لها مواقع في أرض الرافدين تصول وتجول بعد أن أصبح البلد مرتعا للآخرين , حين فقدت أجهزته الخاصة قدرتها على التعاطي مع الأمر بشكل صحيح والمحافظة على الاستقلال السياسي للبلد حتى أخذت دول الجوار هي من يتحكم بمصير البلد لأساب أهمها ارتباط الطبقة السياسية بها روحا وقلبا , المهم لقد ضعف البلد ولم يعد كما كان سابقا رائداوقوبا وأخذت دول الجوار لأسباب يطول شرحها تحاول أن تعمق الفجوة بين مكوناته لغرض فرض سيطرتها وإخضاعه لإرادتها وإبقاءه ضعيفا لا يقدر على المطاولة كي تضمن وجود جار ضعيف غير قادر على التأثير في الساحتين العربية والعالمية ،هذا هو مختصر لمنغصات العيش في العراق على سبيل المثال لا الحصر ،بعد ذلك اليوم الذي تحول بعد سنوات من فرحة الناس به إلى يوم مشؤوم في تاريخ العراق المعاصر. |