عندما نرجع الی التاریخ في الشرق الأوسط، نری بأن العقیدة الإصطفائیة الموروثة من الدیانات التوحیدیة الإبراهیمیة بنسخها المختلفة تؤکد علی إصطفاء معتنقیها لختم الرسالة وإبلاغ العالم بالمقررات الأخيرة. هنا تکمن الآفة والجرثومة الفتاکة، آفة الإصطفاء ، لأن هذه العقیدة ترسم لمن یؤمن بها صورة الشخص الوحید والمختار والمالك لمفاتیح الحقیقة والإیمان أو الهدایة والإستقامة. صاحب هذه العقیدة یدعي بأنه هو لا غیره الأصدق والأحق والأشرف والأفضل ، أما الآخرون فهم في ضلال مبین أو من التائهین في النفاقِ والكُفرِ والبِدعة. إن مسألة إحتکار الحقیقة والمشروعیة الإیمانیة تفرض علی أصحاب هذه العقیدة بتقدیس الرموز النابعة منها و جحد کافة الرموز الأخری. منطق هذه العقیدة لا یعترف بالإختلاف ولا حتی بالتنوع أوالتعدد، یمارس المماهاة والثبات والعبادة للأصول والنصوص. المآل هو صناعة الحروب وتحویل أفراد المجتمع الی قطعان بشریة، لأن الظاهر والثابت والواحد والملموس في کل شيء لیس إلا حجب و تبسيط و خداع، به تزداد الأمور تعقیداً والمسائل مستعصیاً علی الفهم. العقیدة الإصطفائیة ، التي إنتشرت بین الجموع الحاشدة و"النخب" الفاشلة تحتل عقول الغالبیة العظمی من الشرق الأوسطیین بالتهویمات والخرافات والشعوذات والتعمیات ولا تسمح لهذه الغالبیة أن تجترح إمکانات جدیدة لیتحول معها المستحیل الی الممكن. نحن نری بأن عالمنا الیوم یتغير بسرعة ملحوظة وكذا عالم الأفکار، لکن هل هناك تغيير في الشرق الأوسط في قضایا المتعلقة بالحریة والعدالة والإنسانیة أو بالحقیقة أو بالعقلانیة والإستنارة؟ هل هناك ثقافة المساءلة وإعادة النظر علی سبیل التجدید أو التطویر في المفاهیم والعناوین؟ أین الشرق الأوسط من العقل البرهاني والجدلي والنقدي والتواصلي أو التداولي؟ ماهو موقعنا علی الخریطة الحضاریة أو وسط المشهد ، ماذا نبني وماذا ننجز؟ في الشرق الأوسط تتحول مشاریع العدالة الإجتماعية أو التحریر أو "أسلمة الحیاة" الی أنظمة إستبدادیة لتحوّل شعار المساوات والحریة و الإیمان من خلال التهویمات الفردوسیة والنبویة أو النخبویة الی نُظم وأطر جدیدة لا تنتج سوی العبودیة. إن ممارسة منطق النبذ وإستخدام إستراتیجیة الرفض وأسالیب الإقصاء والإستئصال وتطبیق العنف بالشراسة ، التي لا مثیل لها بدءاً بالذبح والحرق والبتر والرجم والسحل وإنتهاءاً بالسلخ هي نتیجة "الشیفرات الثقافیة" المتراکمة في العقیدة الإصطفائیة، تلك العقیدة التي جعلت من الشرق الأوسط جحیمنا الموعود ، بعد أن تحولت ساحات الدول الشرق الأوسطیة الی بحور من الدماء. الی متی تتعامل الحکومات وكذا رؤساء الطوائف الدینیة والمذهبیة والقبائل مع الجموع معاملة الأرقام وتحتقرها لتحویلها أخيراً الی قطعان تحتاج الی من یفکر عنها؟ نحن نعرف بأن بناء الدولة أو التنمیة المجتمعیة أو التقدم لاتحدث بأفکار الماضي ولا بالشرائع والمعاییر والأدوات المستهلکة أو المتحجرة ، التي لم تنتج في الماضي سوی الدمار الذاتي والتناقض الذاتي والتي أسهمت في خراب وتمزیق المجتمعات ، فساداً و إستبداداً و إرهاباً . إن تلك الأفکار والشرائع والمعاییر، قامت بتدجین المجتمع وعملت علی قولبة العقول وختم الأجساد و ساعدت ، كما یروي لنا التاریخ ، علی نشر الفتن المذهبیة والحروب الأهلیة ، لتصبح منذ عقدین أو أكثر مصدراً أساسیاً لنشر الرعب علی ید المنظمات الإرهابیة ، التي تعتبر کل من لا یفکر علی شاکلتها یجب أن یختطف کرهینة أو یُسبی و یُغتصب و یُنحر و یُقتل، دون ذنبٍ أو جریرة. في الشرق الأوسط لا دور لأطراف أو جماعات سیاسیة تؤمن بالثقافة السیاسیة ذات تقالید إجتماعیة ملائمـة تقـوم علـى التـسامح الفكـري المتبـادل وإحتـرام حقـوق الانـسان وتوفر الشروط المقبولة لعملیة التداول السلمي على السلطة، للخلاص من كـل الأطـر والمناخـات التـي حولـت العمـل الـسیاسي الـى مایـشبه المؤسـسة العـسكریة بطقوسـها المعروفـة. نحن لا نری وللأسف أیة محاولة من قبل النخبة "الفاشلة" لإنشاء علاقات مغایرة مع الحقیقة لشحن معانٍ جدیدة تجعلها أقل تجریداً وتعالیاً ووحدانیةً، أي أكثر تداولیة وإجرائیة و راهنیة، من خلال فتحها علی مفردات مثل الخلق والإبتكار أو التجاوز والترکیب، أو الصرف والتحویل ، أو الإدارة والتسییر. أما قضیة الفصل بین السلطات و إستقلال القضاء ووجود نظام تمثیلي نزیه في الشرق الأوسط بعد عقود من الدعوة والنشر والتعبئة والتنظیم من جماعات مؤمنة بالعقیدة الإصطفائیة والأصولیة المففخة بالعقلیة التکفیریة والمقولات الخاویة فیمکن إعتبارها الآن ضرب من الخیال. صحیح بأن هناك مقاومات للعقلیة الإصطفائیة والعقائد الأصولیة المتحجرة ومحاولات جادة من قبل قوی المجتمع المدني، المتمثلة بالنساء الشاعرات أو الفنانات أو المفکرات المنخرطة في أعمال التحدیث والتجدید یمارسن علاقتهن بوجودهن في غیر مجال، من أجل الإنفتاح و الإبتکار والإستحقاق، لکن هل هذا یکفي؟ مهما حاول الإنسان الشرق الأوسطي بالبحث عن حقیقة متعالیة ، ثابتة ، جوهرانیة ، أحادیة فسوف یضل البحث و یعمل أخيراً علی حجب الحقائق وتزویر الوقائع، یحصد بالنتیجة الإخفاق والإحباط و لا ینتج غیر العنف والخراب. ومتی ما مورس الدین في المجتمع الشرق الأوسط کمشروع خلاص فردي أو كنظام خُلُقي جامع أو کحقل من الحقول المجتمعیة المتفاعلة مع الحقول الأخری، لا کمشروع سیاسي أو مجتمعي، یمکن أن نقول هناك فضاء لممارسة الخصوصیة الثقافیة بحریة ، وهو الحجر الأساس لقیام الدولة المدنیة، العلمانیة المحایدة الداعیة للمساواة في المواطنة الجامعة، بعیداً عن تبني عقیدة طائفة معینة. وأخيراً: "من یرید أن یساهم في إدارة العالم المتعولم، علیه بالمشاركة الجادة في تغيير نمط التفکیر وسیاسته، للتمرّس ببناء وتشکیل عقلانیات مرنة ، مفتوحة ، دینامیکیة، ذات طابع ترکیبي تعدّدي، تأخذ بالحسبان تعدّد الإختصاصات والمقاربات والمعالجات، بقدر ما تتعامل مع الواقع المعقّد والمتلبس بتداخل أزمته وتراکب مستویاته وتفاوت سرعاته وتعدّد قواه ومشروعیاته."
|