هناك رموز ودلالات ثابتة ، ولا علاقة لها بالانظمة ، أو الحكومات ، لانها تعبر عن البلاد كلها ، وليس مكونات بذاتها ، أو حكام بشخوصهم .. والنشيد الوطني أحد هذه الرموز ، ويمثل الشعب بكل تنوعه ، والبلاد بكل عمقها ، وتاريخها ومستقبلها من خلال تعبيره عن المشتركات الوطنية ... وحسنا فعلت الاعلامية القديرة رقية حسن عندما استضافت في برنامجها ( ظهيرة الجمعة ) في قناة الشرقية الفنان الموسيقار نصير شمة ، وتحيتها لمشاهديها بعرض مقترح للنشيد الوطني العراقي من تلحينه ، وهو من كلمات الشاعر سعد جاسم ، عله يعود الى الصدارة من جديد ، ويحظى بالاهتمام بعد أن لفه النسيان منذ عام 2003 ، وينتهي ذلك السجال والجدل بشأن هذا الرمز الوطني .. فهل ستحفز هذه المبادرة الشخصية المهمة من فنان مبدع زملاؤه المبدعين لتقديم نماذج أخرى بمضامين يلتقي عليها العراقيون جميعا ، ويكون الشعب هو الحكم ، من خلال طرحه للاستفتاء عليه ، بدل الدخول في دوامة اللجان ، بعد أن أخفقت على مدى السنوات الماضية ، بسبب الخلافات السياسية ، لان كل كيان أومكون يريد أن تكون له حصة فيه..
تقويم النشيد ليس بالامر العسير ، لا يحتاج الى رؤية فنية فقط ، بل الى روح وطنية تسبقها ، لانه يخاطب جميع المواطنين ، مثقفين ، وعلماء ، وعامة الناس ، بما فيهم الامي ، وروحه المشتركات ، وهي حب الوطن واعلاء شأنه ، والموسيقى تعبر عنها أجمل تعبير .. ولذلك إختارت بعض الدول الموسيقى فقط ، لتمثل نشيدها الوطني بدون كلمات .. فلعل اوتار عود الفنان شمه تبعث الروح من جديد في هذا الرمز ، و تخرجه من شرنقة المحاصصة التي دخل محبسها سنوات طويلة .. ولا اعتقد أن العراقيين من مختلف كياناتهم وإنتماءاتهم يختلفون على المضامين التي استمعنا اليها في ( الظهيرة ) .. وهي قيم ( السلام والمحبة والتسامح وقبول
الاخر ) ، وقد اعطتها الموسيقى بعدها الوطني ، ونجحت الاوكسترا بضخامتها في تجسيد قوة العراق ، لأن النشيد اذا لم يكن بتلك الهالة والعنفوان ( وتقشعر له الابدان لا يصل الى الناس ) على حد ما يرى الفنان شمه الذي شرح تلك المضامين وأجاد في توصيلها من خلال ذلك اللحن الجميل .. وهناك من يتساءل من أين جاءت هذه القوة والضخامة في اللحن ، لفنان عرف بوداعته وهدوئه وصوته الهامس ..؟.. أنها من العراق بالتأكيد ، لانه لا يليق به غير أن يكون هكذا ، كما هو شانه دائما قويا عزيزا .. والنشيد الحماسي يعمق الاحساس بالوطن ، ويعزز الانتماء اليه ، وقد تعودنا أن نأخذ شحنة معنوية ، ودرسا روحيا في الوطنية في بداية يومنا الدراسي من النشيد الذي يعزف ، ونشنف اسماعنا به ، ، بطقوس ومراسم واداب الاحترام والتعظيم ، ونمر من أمام علم العراق ، ونحن في طريقنا الى الصفوف وهو يرفرف عاليا وسط ساحة المدرسة .. وكانت الاذاعة تبدأ بثها بعد ذكر الله بالنشيد العراقي وتختتمه به ايضا ، وكذلك التلفزيون .. ولم يقل أحد من هذا المكون ، او ذاك ، او غيره أنه لم يتضمن ما يشير اليه ، لان النشيد كان يجمعهم ، والعراق خيمتهم الواسعة التي يستظل بها الجميع .. والنشيد الوطني ليس أداة تعريف بالبلاد فقط ، بل يتعدى حدودها في التواصل بين الشعوب أيضا من خلال الموسيقى وهي لغة انسانية عالمية ..فمن لا يعرف لغة تلك البلاد يمكن أن يفهم مضمون نشيدها من الموسيقى ، ولم يدر في خلده أن يسأل عن مكونات ذلك البلد .. والعراق ليس استثناء من دول العالم ، فهو يتكون من الوان ، وليس لونا واحدا ، لكنها بمجموعها تشكل لوحة جميلة ، او حديقة زاهية ، على خلاف الحال عندما تكون الزهور كلها بلون واحد ، فقد لا تظهر بذلك الجمال عندما تكون بألوان متعددة متناسقة تسر الناظر وتريح النفس .. الوطن للجميع ، ويسع الجميع ويفترض أن يكون رمزا للجميع ، وليس لنظام ، مهما كانت هويته ملكيا .. جمهوريا ..برلمانيا .. رئاسيا .. لقد مضى من الوقت ما يكفي ويزيد ..ومن غيرالمعقول أن تمتد المحاصصة الى هذا الرمز ، وتكون البلاد بدون نشيد متفق عليه الى الان ، لان كل مكون يريد
حصة في النشيد ، وكأن العراق باسمه الكبير وتاريخه العميق ، لا يعبر عن الجميع .. وجسد الفنان نصير شمة في هديته ( بظهيرة الجمعة ) ، ولحنه الجميل ، تلك الرمزية ، وذلك الاحساس بالوطن ، والفخر به ، واهمية وحدته الوطنية ، والالتقاء على المشتركات في ظرف نحن بامس الحاجة الى العودة الى تلك الثوابت الوطنية .. وما احلى الموسيقى عندما تعزف على اوتار الوطن ..