الدولة العراقية بين مطرقة التوافقية وسندان المؤسساتية

جامعة وين استيت الأمريكية

نشر موقع صوت العراق في الحادي عشر من شهر أبريل مقالاً لي بعنوان (مشروع خارطة طريق دولة المؤسسات العراقية الحديثة) الذي يقوم على صدق الانتماء لثلاثية الموروث الوطني والأرض والإنسان ، حيث تمّ عرضه على هيئة مختزلة ، دعوت فيه إلى تشكيل هيئة مركزية عليا تضمّ:
1- ممثلين عن المراجع الدينية لكافة الطوائف والإثنيات العراقية ممن يتحصنون بالثبات وحسن الأداء والنزاهة والمسؤولية والشرعية والشجاعة والبعيدين عن المحاصصاتية والطائفية وضيق الانتماء والمشهود لهم بالقيم والمُثل العليا.
2- لجنة دولية من الأمم المتحدة تسمى من قبل الأمم المتحدة ، تمتلك قوة القرار والنزاهة والحيادية في عملية التقييم ، بناءً على أسس وثوابت وطنية ودولية وعلمية وقيمية ، وتنحصر مهمتها في تقييم الكفاءات المتقدمة للترشيح لشغل المناصب الوظيفية وقيادة مؤسسات الدولة العراقية الحديثة ، من أعلى قمة الهرم حتى قاعدته ، بناءً على شهاداتهم العلمية والبحثية وبرامجهم وخبراتهم ومهنيتهم ، على وفق ثوابت معترف بها عالمياً.
3- لجنة من القضاة والحكام ورجال القانون وأصحاب التجارب ، من الكفاءات المتخصصة ، ومن كافة أطياف الشعب العراقي ، مشهود لهم بالوطنية والنزاهة والمهنية وحسن الأداء والمسؤولية والشجاعة والحيادية.
هذه الهيئة لها صلاحيات دستورية وقانونية عالية المستوى لتنفيذ هذا المشروع الوطني المؤسساتي العملاق الذي يشتمل في بنوده على مراجعة الدستور العراقي ، وتعديل قانون الانتخابات ، وتشريع قانون الأحزاب ، والإحصاء السكاني ، وهيكلة مؤسسة الانتخابات ، وإصلاح القضاء واستقلايته ، والتأسيس لسباعية الدولة المدنية الديمقراطية التي تتسم بـ:
الأرضية الصلبة لحكومة مهابة
امتلاك مهنية القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
القضاء على صراع الأضداد الذي تتنازعه مصطلحات التهميش والشراكة والتوافق والتفرد والإقصاء والتخندق في فضاءات الوطن.
التوزيع المتوازن للثروة الوطنية.
ردم هوّة سيناريوهات الفساد الفردي والجماعي وتشخيص المسؤولية الجرمية ذات الطبيعة المزدوجة القيمة.
القضاء على صراع الثقة في الميزانين الكمي والنوعي.
التأكيد على ثلاثية المنظور الفكري والقيمي والاستحقاق الجوهري للإنسان العراقي.

هذا المشروع ، في صلب ديناميكيته ، يقوم على أساس إعادة بناء وهيكلة الدولة العراقية المدنية على أساس مؤسساتي ، بعد أن طفح الكيل بغياب مهنية القرار ، وضعف آليات الحكومة ، وتراجع أداء السلطتين التشريعية والتنفيذية في مستوياتهما الفكرية والقانونية والتنظيمية ، مما أدى إلى اندلاع ثورة المظاهرات وغليان الشارع العراقي ، في وتيرة متصاعدة على إثر تلاشي خيوط الثقة وتخبطها في ميدان الرئاسات الثلاثة ، حيث جموع الأضداد تتقاذف كرة اللعب وسط مسميات غير منطقية ، تتحكم في توجيهها المحاصصاتية والتهميشية والتسقيطية والتوازينية والكتلوية والطائفية والإثنية وسواها في ميدان المصطلح غير المتكافيء القيمة.
ولما كانت المظاهرات بكل ثقلها ترفع مشاعل شعاراتها عالياً بوجه قوافل العشو السياسي ، فإنها إنما لتنبه وتحذر في صوت عراقي واحد:
ترفع عن ظلمي لأنني لن أتذلل لك ، ولن تستطيع التطاول والمراهنة على بيت جدودي وميراثي وذاكرتي بعشوائيتك.
نعمتان مفقودتان الشبع والأمان وكلاهما متلازمتان تقابلهما ثنائية الجوع والخوف.
تذكّر أنّ لكل نعمة حداً تنتهي إليه ومدىً تقف عنده.
إن الله يعطي حدّ الامتلاء ويأخذ بأقل من طرفة عين.
هذه المظاهرات انتهت سلمياً على أساس تنفيذ البرنامج الإصلاحي لدولة العراق المدنية بعيداً عن المفاقس والمحاصصات والاعتبارات الولائية والطائفية والعشائرية والعرقية والحزبية على أن يؤخذ بمطالب الشعب المقهور وتنفذ مطاليبه على وفق برنامج متوازن.
لكن المظاهرات والاعتصامات الأخيرة ما أن لملمت أنفسها وخيامها وغادرت أسوار الخضراء ، على أمل الوفاء لهم بالعهد ، حتى اختلطت الأوراق مرة أخرى على روليت التحاصص الحزبي والكتلوي والطائفي والعرقي وسواه ؛ لأن المتولين على يقين ثابت من أن كرسي السلطة عقيم ولن يدوم لهم إلا بإشاعة التواكل والتخاذل والخوف والتردد والإنكفاء النفسي والتسويف والجوع والصبر الذليل وترسيخ الأنا في الذات المتظاهرة. وقد وضح الأمر واستشرى الداء حتى بلغ أشده ، كما قال الشاعر ابن الحمام الأزدي:
كُنَا نُرَقِّعْها وَقَدْ مُزِّقَتْ وَاتَّسَعَ الخِرْقُ على الرّاقعِ
وعرف القائمون على التظاهرة لاحقاً بأنها سرقة مفضوحة لعواطف شعب مقهور وريث أوجاع مزمنة ، وتسويف أحلامهم وأمانيهم في حياة حرة كريمة ، ودولة مدنية ديمقراطية نقية خالصة للحق بقدر صدق انتمائهم وحبهم لتراب الأجداد.
وتكشفت الزوايا الخانقة ، فانتفض بعض البرلمانيين ليسجلوا وقفة احتجاج طيبة الطالع رافضين ذلك تحت قبة أخطر مؤسسة في البلاد ، عندما علموا أن فقه الإصلاحات الذي يطالب الشعب به لم يتحقق ولن يتحقق طالما أن خلفه كتل الطيف اللوني غير المتجانس والتي لم تكن تصغي بثبات دائم قائم على فلسفة الفهم الأعمق لهتاف الشارع الذي عاش أزمات متلاحقة التأوهات عبر تراكمات سنين عطشى حين حُلِبَ ضرع العراق دماً.
إن الذي حدث تحت قبة البرلمان من أخطر المواقف التي يمر بها العراق بل هو منعطف مرعب ومخيف ، خصوصا وأن البرلمان هو أحد الرئاسات الثلاثة التي تدير الحكم في العراق إلى جانب رئاسة الوزراء والجمهورية ، بل هو أهمها وأخطرها ، ولا بد من أن يصار بشكل جدي وواقعي إلى المعالجة العقلانية دون اللجوء العملية القيصرية ، وإلا فإن البلد سيعيش فراغ قانوني كبير مما يؤدي إلى إنهيار تام في مجمل العملية السياسية في البلاد.
لا بد أن تعي الرئاسات الثلاثة الخطر المحدق بالبلاد بشكل راسخ ، وأن تنتفض بواقعية وحيادية ، وتنبذ مصطلحات الحزبية والطائفية والكتلوية والتهميش والمحاصصاتية ، وتتبنى عقلية المراجعة المتوازنة لصياغة مشروع بناء دولة المؤسسات المدنية الذي يحفظ للعراق هيبته ويحميه من التشظي والتفكك والانحدار.
حكومة الرئاسات العراقية الثلاثة إذا كانت تريد إخراج العراق من هذا النفق المظلم عليها تنفيذ هذا المشروع العملاق وأن تبدأ فيه من الآن ، فبيديها كل آليات نجاحه ومن الآن عليها:
1- أن تستفيد من بعض المشاريع التي قدمتها بعض الكفاءات العراقية في هذا السياق ، إلى جانب ما لديها من خبرات وكفاءات وطنية متقدمة ، وهنا لابد أن أشير إلى المشروع الذي عرضته في مقال سابق بعنوان (مشروع خارطة طريق دولة المؤسسات العراقية الحديثة) وذلك بالتنسيق مع تلك الكفاءات الوطنية في هذا الشأن والاستفادة من خبراتهم ومهنيتهم في بناء دولة المؤسسات المدنية خصوصا وأنهم يراقبون عن قرب دولاً عالمية متعددة انتهجت هذه الأنظمة الديمقراطية ونجحت في إسعاد شعوبها.
2- أن تعلن ذلك للشعب العراقي صراحة وتبدأ بتنفيذه ضمن فترة زمنية وبرنامج منطقي مدروس ، وتثبت للشعب مصداقيتها في إسعاده والحفاظ على ثرواته وإنسانيته تحت خيمة الدولة المؤسساتية ، وأنا على يقين ثابت بأن العراقيين سيساهمون بشكل فاعل في إنجاح هذه التجربة الريادية الكبيرة ؛ لأنهم يملكون ثقافة حضارية وموروث قيمي عالي القيمة ويتمنون تحقيق ذلك من خلال مشاهداتهم للدول الأخرى التي تنتهج هذه الأنظمة
3- يجب أن تعمل الرئاسات الثلاثة بدقة عالية وبشفافية ووطنية على مسمع من الشعب وليس بعيداً عنه ؛ لأن الشعوب هي المرتكز الأساس لدول العالم ، وأن الرأي العام له قوة وصلابة وعنفوان تخشاها الدول وتشرع وتنظم من أجلها القوانين التي تحفظ حقوقهم المدنية والموروثية.
4- الزمن ليس زمن زعامات فردية تتخبط في دهاليز الدكتاتورية القمعية المقيتة وتتغذى من أرحام متباينة طائفية وكتلوية ودينية وحزبية وسواها وعلى جميع الكتل والأحزاب أن تعي هذه الحقيقة. ذلك زمن انهارت عروشه وحل محله زمن المؤسساتية القائمة على أساس ديمقراطي حر نزيه.
5- الابتعاد عن الشعارات والأصوات الفوضوية التي تطلقها الحناجر الملثمة ؛ لأنها لا تصنع وطناً كالعراق الذي يرسو على حضارة بحجم العالم كله.
6- أن تتحرك الرئاسات الثلاثة بحجم مضاعف لحجم العراق وليس بحجم كرة قدم ، لكي تنضّج بناء دولة المؤسسات.
7- حكومة التكنوقراط التي تسعى الدولة لتبنيها في الكابينة الوزارية الترقيعية لا تحمل إلاّ بريق مصطلح (تكنوقراط) أما هو في الحقيقة ففارغ من القيمة الثبوتية.
عراقيو الكفاءات المتقدمة من التكنوقراط الحقيقين أصحاب الشهادات العلمية والخبرات المهنية والمستقلين والحياديين منتشرون في كل دول العالم ، ولابد أن يصار إلى احتضانهم والاستفادة منهم لبناء دولة مؤسسات إلى جانب تكنوقراط الداخل وفق برنامج علمي واضح المعالم.
8- الرئاسات الثلاثة عليها الابتعاد عن السعي وراء حكومة الوجبات السريعة المتمثلة مرة بظرف مختوم اختارت مفرداته لجنة خبراء من العازفين خلف آلاتهم مكبَّلين ومُدارين حزبياً وطائفياً ومحاصصاتياً وتهميشياً وتفردياً في ركض متسارع لامشروع وراء السلطة لكي يعزفوا مقطوعة التكنوقراط الجديدة التي هبطت من عليين مشوهة البنية ليقدموها جاهزة للشعب بتوصية حزبية أو كتلوية أو دينية على غرار الوجبات السريعة التي تقدمها مطاعم مكدونالد الشهيرة لروادها.
9- على الرئاسات الثلاثة أن تدرك بأن العراقيين قد ملّوا (الوجبات السريعة الجاهزة) فهم يطمحون إلى فضاءات الشفافية الديمقراطية التي هي هدف كل الأنظمة الطموحة في دول العالم المتقدم.
بالأمس وكل العراقيين يتذكرون عندما اختلف القوم محاصصاتياً على منصب رئيس الجمهورية أعلنت رئاسة البرلمان فتح باب الترشيح لهذا المنصب لكل العراقيين بناءً على ما نص عليه الدستور العراقي. أعلن ذلك بكافة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة ، وطلبت رئاسة البرلمان من الراغبين في الترشح إرسال سيرهم الذاتية عن طريق بريد إلكتروني خصصته لهذا الغرض.
استبشر العراقيون بذلك خيراً ورؤوه يمثل أعلى درجات الشفافية والديمقراطية التي حرموا منها لعقود طويلة. توالت الترشيحات من كل أصقاع العالم. أذكر أنني كنت من من ضمن قائمة المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية إلى جانب الدكتور فؤاد معصوم وبرهم صالح وآخرين بعد أن فُلْتِرَت أسماء جميع المرشحين في هيئة النزاهة والمساءلة والعدالة وغيرها من القنوات الأخرى وأصبحت جاهزة للتصويت في البرلمان. وكنت وقتها مستعداً حينما استدعى لعرض برنامجي الحكومي أمام البرلمان في بناء دولة الإنسان التي سعى إليها كثير من القادة والسياسين الكبار في بداية المسيرة مثل الشهيد السيد محمد باقر الحكيم وأستاذي وابن عمومتي الشهيد عز الدين سليم رضوان الله تعالى عليهما.
وفجأة في اللحظات الأخيرة يطفو أخطبوط المحاصصة على السطح وينهي ما كان البرلمان قد خطط له ديمقراطياً كما نص على ذلك الدستور العراقي ؛ لأن هذا المنصب من حصة المكون الكردي.
الحقيقة لقد فرحت للدكتور فؤاد معصوم حينما تولى منصب رئيس الجمهورية ؛ لأني على تمام المعرفة به علمياً وأخلاقياً وثقافياً ومعرفياً ومعلماً بارزاً من أعلام الفكر منذ أن درّسني الفلسفة الإسلامية والفلسفة اليونانية في جامعة البصرة حينما كنت أحد طلاب برنامج البكالوريوس فيها ؛ فهو في الحقيقة جدير بهذا المنصب الرئاسي المتقدم وذو كفاءة عالية وشخصية أعتز بها وأكن لها التقدير والاحترام ، وأتمنى على عهدي به أن يمارس سلطاته الدستورية والقانونية في لملمة أطراف الحدث المعاصر وأن يحفظ العراق أرضاً وإنساناً.
10- لا ينتهي الفساد الأخطبوطي وأرتاله ومافياته ، التي أرعبت العالم بأساطيل ثرواتها اللامنطقية إلاّ بدولة المؤسسات ، وإلا فالفساد المستشري في جسد الدولة العراقية سرطاني يقف على إرث أخلاقي محطم وله أجندات متعددة المسالك تتحرك إعلامياً ونيابياً وتنفيذياً على مستوى شبكات مخيفة ومرعبة ، لها وسائلها اللاأنسانية في التصفية من أجل حماية مكتسباتها وقنوات فسادها ، ولها في ذلك مؤسسات في الأفتاء والتوجيه على كل المستويات والأصعدة ضربت بجذورها الأرض العراقية وتفننت في شرعنة سرقة المال العام وتبييض وغسيل الأموال.
إذا تم تحقيق ذلك عملياً وليس نظرياً ، فإننا سنرئب التصدع ونقتلع الجذور الفاسدة والقواعد المستهلكة ، ونحفظ البلاد والعباد ، ونؤسس لدولة مدنية ديمقراطية هي حلم ومنية كل العراقيين.
أما إذا استمر الوضع على هذه الحالة من التسويف والتجاذبات غير المتوازنة الهجينة والمماطلة والتردد والعهود والمواثيق الورقية ، والتوقيعات الباهتة الألوان التي لن تسهم بأدنى خيط أمل في حل الأزمة المتصاعدة ، فإن سو الحالة وعنقاء عدم التوازن والفوضى العشوائية ستزج في البلاد إلى منحدرات قد تؤدي إلى كوارث في الميزانين الكمي والنوعي.
أيتها الرئاسات الثلاثة ؛ يا دولة رئيس الوزراء ويا برلمان الشعب ويا رئيس الجمهورية الشعب العراقي اليوم صار على وعي تام بأن كل مواريثه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية قد نهبت وأن ثرواته الطائلة قد انتهبت وأن السيل ، في واقعه اليومي ، قد بلغ الزبى والمدية المَحزَ والروح الحلقوم.
فككوا نظام المحاصصة وانتفضوا على كل شيء يقف في طريق بناء دولة المؤسسات ، فكل العراقيين في الداخل والخارج معكم وهم يحتضنون العراق في عيونهم وقلوبهم ، وعلى استعداد تام للمساهمة حين تدعونهم على أساس من الشفافية الديمقراطية وليس من وراء الكواليس حتى لا يسبق السيف العَذل.