لاشك في ان اللغة العربية قد حظيت بالرفعة والتكريم ،فهي لغة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ،ولغة القران الكريم إضافة إلى ما تضمنته كتب الحديث والسنة وكتب التاريخ والأدب من روايات وأحاديث في تمجيدها والكشف عن ذخائرها البيانية والبديعية وقدراتها على المعاصرة وما حققته في ذلك رغم كل الحملات التي اتهمتها بالعجز عن مسايرة التطور الحضاري والتكنولوجي..
فكيف دخل داء اللحن الى ربوعها ومتى ..؟
اللحن كما قال الفراهيدي صاحب كتاب العين هو(ترك الصواب في القراءة) وفي قول ابي علي القالي في كتابه الأمالي (لحن الرجل يلحن لحنا فهو لاحن اذا أخطأ )
ولايختلف اثنان في أن وراء كل ظاهرة عوامل مختلفة ، ولكي لا نطيل الوقوف نخلص بإيجاز الى بعضها متمثلة بما يأتي:
ا - لما جاء الإسلام ونزل القران الكريم عربيا ، هيمنت هذه اللغة الشريفة على لسان المسلمين من غير العرب ،فتعلموها رغبة في العلم ، وتبركا في تلاوة كتاب الله العزيز ،حتى أصبحت الحال أن ليس في مقدور هؤلاء بطبيعة الخلق أن ينطقوا بها كأهلها ،فارتضخوا أنواعا من اللكنة أحدثوا بها أوضاعا من الخطأ علقت بالمحيطين بهم.
ب -إ ن حياة المدنية وما فيها من المظاهر الإجتماعية والإقتصادية في الأسواق والمكاسب وخروج القبائل من منازلها الى أجواء المدن التي كانت تحفل بالأجناس الأجنبية المختلفة ، من أبرز المساهمات المتواصلة في تفشي داء اللحن.
جـ - إن مخالطة كثير من الأسر العربية لكثير من العبيد الخدم والجواري الإماء وغيرهم من الأجناس الأجنبية كان عاملا فاعلا في تفشي اللحن ، ولا يخفى اثر هذه المخالطة في الحياة الداخلية لهذه الأسرة العربية ..
وعلى الرغم من توسع مصادر اللحن ، فإن هناك عوامل مضادة ساهمت في صد ذلك الطغيان أو التقليل من شأنه ، كهجرة القبائل العربية وتنقلاتها المتواصلة من الجزيرة ،الحصن اللغوي المكين ، الى الأمصار والمدن المفتوحة ، ونخص المدن المفتوحة ، لأن الفتوح قادت الى اختلاط الأجناس وقاد الاختلاط الى اللحن ، ولايخفى ما لتلك الهجرة من اثر لغوي ،لأنها كانت تمد العربية دائما بدفقات من دمها الأصيل وتغذيها مع كل هجرة بما فقدته بسبب الاختلاطات المضادة ..
هذا بالاظافة الى الجهود الفردية التي كان يقوم بها بعض الآباء بعد أن أحسوا بخطر وباء اللحن ، فبادروا الى إخراج أبنائهم من نطاق القصور والبيوت ،وإلحاقهم بالبوادي او القبائل حينا من الزمن ، ولولا تلك المحاولات وما شابهها لكان الفساد الذي لحق العربية أشد وأدهى في الأوقات المبكرة الأولى.
ولاشك في ان هذه الدوافع الفردية لايقوم بها الا من تعلق بالفصاحة تعلق الروح بالجسد ، لأنها في مفهومهم جزء من الإيمان والعقيدة .. حتى أنهم كانوا يعتقدون ان اللحن يقطع الرزق ،ويستعجبون ان يلحن التاجر ويربح ، فمما يروى ان أعرابيا دخل السوق فوجد الباعة يلحنون، فضرب كفا بكف وصاح : سبحان الله يلحنون ويربحون ،ونحن لانلحن ولانربح..
ولاشك في ان أول من غزتهم المتاعب هم أهل اللغة والفقه والنحو من العلماء والأدباء .
ولما كان عرب البادية يتكلمون بسلامة تامة ، وبطلاقة لسان عربي مبين ،يمثل الانتماء الصريح الى الأصالة والنقاء ،أصبح اللحن عارا لايمحى على من يقع فيه من أشراف العرب ،لذلك لم يغفل القوم متابعة سلامة النطق ومحاسبة من يتهاون ، وتحذير من يتعثر..
وكان من شعاراتهم المتداوله ( اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب)و(اللحن هجنة على الشريف) و(تعلموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض) و ( اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدري في الوجه) .
ان اللحن في الكلام الفصيح كان يدب هنا وهناك لأسباب ذكرنا بعضها ،ولكن رغم شيوعه كان يجد أمامه مقاومة عنيفة ، تهذّب وتقطع وتحسم وتستأصل ،ولاشك في انها كانت مقاومة ذات وجهتين :
- وجهة نحو القضاء على اللحن كظاهرة تتعلق باللغة وسلامة النطق ،
- ووجهة نحو مقاومة أنصار اللحن ومروّجيه.
وجاء العصر الحديث فإذا به يواجه أعداء حاقدين مخربين قد بذلوا جهودا كبيرة في محاربة العربية المقدسة ، وكانت أول محاولات الأجانب ما دعا اليه المستشرق المسيو ماسينون وهو خبير وزارة المستعمرات الفرنسية وذلك عندما القى جملته المعروفة ( ان إهمال الإعراب ييسر تعليم اللغة العربية) في حين ان مدرس الرياضيات الفرنسي تحمَرّ عيناه غضبا اذا اخطأ الطالب في لغة المسألة وليس في حلها ، ولايمكن ان ننسى العبارة التي غرستها فرنسا منذ سنة ستين وثمانمائة وألف في بعض النفوس الغافلة الجاهلة ونصها :
( عليكم ان تتركوا اللغة العربية وتحاربوها وتتجنبوها مااستطعتم لأنها لغة المسلمين)
والأنكى من ذلك انك تسمع بجهود مخذولة لبعض الكتاب الذين وجدوا صعوبة في تحاشي ارتكاب عار اللحن فعمدوا الى إشاعة العامية في الكتابة والدعوة الى نبذ التكلم بالفصحى ،يدفعهم الى ذلك إيمانهم المتزعزع بالموروث الإسلامي وتلوث دمائهم بوباء الشعوبية.
ان المتتبع لجهود هؤلاء يجدها قد باءت بالفشل منذ ساعاتها الأولى ، لأنها محاولات تعارضت وتتعارض مع الحقيقة والمنطق وجذور الموروث ، ومع ذلك فقد توهم هؤلاء ومن ناصرهم انهم يستطيعون حجب قرص الشمس بإصبع واحدة ، كما تجاهلوا رغم كل الدلائل ايضا ، ان الله عزوجل قد تكفل بحفظ كتابه العزيز فقال جل وعلا ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ).
وبلغ التجاهل والحقد على العربية وعلى آدابها عند بعضهم حتى بلغ أحدهم حدا جعله يقول :( وأنا أصارح القراء باني لاأقرأ الأدب العربي إلا لقيمته التاريخية فقط ولاابالي هؤلاء الأصنام الذين يُذكرون في كل وقت مثل الجاحظ وابن الرومي ومن إليهما ).
ولم يمض هذا التصريح وأمثاله في طريقه سليما معافى ، إذ سرعان ما أصابته لطمات تاريخية وجّهها إليه كوكبة من حماة لغة القران الكريم ،وعلى الرغم من العواصف التي يمر بها كل عمل جاد ومخلص فان جهود النقاد اللغويين أخذت تسير بجد لقطع الطريق أمام من يريد بالعربية شرا ، ولايسعنا عرض هذه الجهود المباركة في مقال .
وفي ضوء هذه السطور الموجزة لابد من الإشارة الى بعض جوانب واقع الحال الذي نحن فيه الآن:
أ - ان مقدم الأخبار والبرامج إذا لم يجد سبيلا لنطق الصواب (في الأقل حسن استخدام علامات الرفع والنصب والجر وهي من أوليات الدراسة المتوسطة) فعليه تسكين أواخر الكلمات أهون من ان يطرق الخطأ سمع من ليس له إلمام بالقواعد فيحسبه صوابا ، ومسالة التسكين هذه نوجهها بأسف الى كل قناة فضائية استحال عليها الحصول على مذيع اومقدم برامج يحسن أوليات العربية ، ولاشك في أن بقاء المذيع المتعثر في لسانه يعني تجاهل القناة أهمية النطق بالصواب وهذا بدوره يفصح عن الإساءة بقصد الى قدسية لغة القران ، والإساءة بقصد يعني ما يعني ..!!!
ب - لاشك في ان الوقوع في اللحن لايتناسب ولاينسجم ولايتوافق على الإطلاق مع الخطيب ، لأنه في الأقل درس ( الأجرومية في النحو أو قطر الندىا وألفية ابن مالك وغيرها كثير من قواعد العربية ) ، وكثيرا ما يبلغ الألم أشده اذا كان لحن الخطيب في محاضرة او كلام يُبث على الهواء ،لأنه يتحول مباشرة الى رسالة شفاء لصدور أعداء العرب والإسلام ، والى نكهة تشفـّي لقلوب دعاة إذلال العربية .
وفي الختام نصلي على نبينا الأكرم محمد (عليه الصلاة والسلام )الذي كان أول من بادر الى متابعة سلامة اللغة العربية بطبعه وأصالته ،وقد سأله احدهم عن عظيم فصاحته فقال :
(أنا من قريش ونشأت في بني سعد فأنّى لي اللحن) وكان من متابعاته أن رجلا لحن أمامه فقال: (ارشدوا أخاكم فقد ضل) ثم تبعه الخلفاء من بعده مابين ساخط على اللحن وبين موجّه ومقوّم ومعاقب.
ورحم الله الشاعر حافظ ابراهيم الذي جسّد لسان حال اللغة العربية بقوله :
وَسِعْتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً
وَما ضِقْتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ
وَتَنسيقِ أَسْماءٍ لِمُختَرَعاتِ
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ
فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني
وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي
فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني
أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحِينَ وَفاتي
أَرى لِرِجالِ الغَرْبِ عِزّاً وَمَنعَةً
وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغاتِ
أَتَوا أَهلَهُم بِالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً
فَيا لَيتَكُم تَأتونَ بِالكَلِماتِ
أَرى كُلَّ يَومٍ بِالجَرائِدِ مَزلَقاً
مِنَ القَبرِ يُدنيني بِغَيرِ أَناةِ
أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ
إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ
سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى
لُعَابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ
فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقعَةً
مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفاتِ
إِلى مَعشَرِ الكُتّابِ وَالجَمعُ حافِلٌ
بَسَطتُ رَجائي بَعدَ بَسطِ شَكاتي
فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيْتَ في البِلَى
وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُموسِ رُفاتي
وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ
مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ
|