الإعلام الحربي

يتذكّر العراقيون الذين شهدوا حربنا مع إيران ، ان القيادة العسكرية في ذلك الوقت كانت تحرص على بث بيان مركزي عن مجمل الفعليات العسكرية بجميع قواطع الجبهات خلال نشرة الأخبار الرئيسة والتي كانت عند الساعة الثامنة مساءً على ماأتذكّر ، وبرغم ان معظم البيانات لم تكن صادقة بعرض خسائرنا في تلك المعارك وكان الشعب العراقي يعرف ذلك ، إلاّ ان بيان نشرة الأخبار ظل يجذب أنظار المشاهدين لسماع تفاصيله ، وعندما يحدثُ تعرّضٌ أو هجومٌ مباغتٌ على إحدى قطعات الجيش ، فكان التلفاز يقطع برامجه الإعتيادية ويبدأ بعرض أغاني المعركة ليجعل الناس في لحظة ترقّب للبيان الذي سَيُعْلن عليهم ، وأذكر بعد إسترجاع الإيرانيين لمدينة المحمرة مع تكبدّ قطعاتنا لخسائر جسيمة بالبشر والمعدّات مع أسر أعداد هائلة من أفراد الجيش الشعبي ، وكان الجيش في حالة يرثى لها في القاطع الجنوبي ، ومنهم كاتب هذا المقال حيث تمكّنتُ بهلع وبقدرة قادر من قيادة دبابتي تحت القصف الى شرق البصرة بعد إنسحابنا غير المنظّم من المحمرة ، لكنَّ البيان العسكري الذي سمعناه مع الشعب العراقي عن تلك المعركة كان مخالفاً للواقع ، حتى كدنا نقتنع بتفاصيله لجزالته وحبكته برغم ان غبار الهزيمة كان يغطي وجوهنا على أرض الجبهة ، حيث ذكر المذيع ان وحدات الجيش إنسحبت تكتيكياً بقتال تراجعي أوقع بالإيرانيين خسائر لاحصر لها ؟! وهذا يبرهن على ذكاء ودهاء الإعلام الحربي
وإحتوائه للهزيمة بطريقة لا تؤثر سلباً على معنويات الجيش الذي لم يشترك بالمعركة ويبث حماساً لدى الشعب ، كما أذكر عند إجتياح الإيرانيين لمنطقة الأهوار ان الشعب العراقي ظل يردد إسم امرأة تدعى " تسواهن " تمكنت ببندقية صيد من قتل عشرات الجنود الإيرانيين ، مما جعل معنويات الجيش ملتهبة ومتعطشة للقتال ، حتى إنبرى الشاعر الراحل يوسف الصائغ بكتابة قصيدة رائعة عنها بعنوان سيدة الأهوار ، لكن بعد سنوات كشف صديقنا الشاعر الغنائي فالح حسون الدراجي بمقال له ، ان المرأة " تسواهن " كانت من إبتكاره وكان يخشى ان الطاغية سيطلبها للحضور الى قصره ويكتشف ان الرواية كانت محض خيال من شاعر مبدع ، كما ان قصة القروي " منكاش " الذي أسقط طائرة مروحية أمريكية ضخمة ببندقية قديمة خلال غزو الأمريكان للبلاد ، والتي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية وكنت في حينها بأستراليا وكيف ان الإستراليين فغروا أفواههم دهشة لشجاعة ذلك القروي ، ذلك الخبر الذي جعل الكثير يعتقد ان هزيمة الأمريكان واقعة لا محال ، بينما الحقيقة ان ذلك الرجل القروي لا يعرف من تلك الحكاية شيئا وتم فبركة قصته لرفع معنويات الجيش في حينها ، والأدهى ان الطاغية أرسل مكافأة مجزية تكريماً له ، لكن المكرمة تم توزيعها على الرفاق لأنهم كانوا يعرفون ان الرجل لاناقة له ولا جملاً بالحكاية ، لقد ذكرت تلك الأمثلة المفبركة التي لعبت دوراً لايستهان به بتعبئة الشعب والجيش في زمن حربي مضى لمقارنتها مع الإعلام الحربي بالوقت الحاضر والذي يواكب إنتصارات الجيش العراقي على عصابات داعش بطريقة خجولة تنقصها الإحترافية ، وشعرت بالأسف ، فهناك بطولات نادرة قام بها
بعض الجنود في ساحات القتال لم يسلّط الضوء عليها ، فليس من المناسب بل من الإجحاف ان تحرير مدينة الرمادي وأقضيتها وقصباتها لايتعدى خبراً عاجلاً تنشره فضائية الحكومة الرسمية لحظة التحرير ، برغم الإمكانيات الإعلامية واللوجستية والمادية المتاحة لهذه الفضائية ، ان تشتيت جهود الإعلام الحربي نتيجة عدم توفر قيادة مركزية تشرف عليه ، يجعل من رسالته باهتة ولا تحقق أهدافها المرجوّة ، لذا أقترح بضرورة توحيد ذلك الجهد الإعلامي الحربي بجميع مناطق القتال تحت خيمة واحدة ، يشرف عليها مختصون وخبراء إعلاميون لهم تجربة حقيقية بالحرب النفسية والمعارك ، مع ضرورة تلاوة بيان عسكري يومي عن فعاليات قطعات الجيش وماتجحفل معها من قوات أخرى وماتحقق من تقدّم وإنتصارات ضمن سياق مواقف يومية ترسلها تلك القطعات الى خلية الإعلام المركزية ، كما يجب ان يكون المذيع الذي يقرأ البيان مقتدرا بفصاحته ونبرته الصوتية ، وبذلك يتحقق لنا إعلاماً تعبوياً يوازي تضحيات الجنود في ساحات الوغى ، ذلك ان تحرير مدينة هيت مثلا الذي بثتهُ فضائية الحكومة بخبر عاجل لا يعادل بحقيقته مكابدة وشجاعة وظمأ وجوع ونزف الجنود في تلك المعركة ، وليس من العدل ان تكون تلك التضحيات مجرد خبر عاجل يبث لدقائق ، ربما هناك من يقول ثمة رسائل تلفزيونية تبثها هذه الفضائية وسواها بين حين وآخر من أرض المعركة ، فأردّ عليه ان ما أعنيه نقل الخبر لحظة حدوث المعركة وإنعاكسه الإيجابي على الجنود والشعب على حد سواء ، والذي يمكن تجسيده والتعبير عنه من خلال بيان عسكري مكتوب بطريقة وطنية مقنعة وبكلمات تبث الحماس لدى من يستمع
اليها ، صحيح ان مراسلاً حربياً شجاعاً مثل حيدر شكور ينتظر رؤية تقريره التلفازي من أرض المعركة معظم العراقيين ، لكن تلك اللقطات كانت تبدو فاترة لاحرارة فيها لأنها جاءت متأخرة وبعد إنتهاء المعركة ، ان الحرب التي يخوضها العراق ضد الظلاميين لابد من توثيقها بالساعة واليوم وان لا تبقى رهينة مزاج هذه الفضائية أو تلك ، وهذا يتطلب إيجاد خلية إعلام مركزي تشرف على نشاطات وبطولات الجيش والقوات المرافقة له ، وتترجم تلك المعارك الشرسة بما يليق بتضحية المقاتلين فيها ، وأقولها بصراحة من المؤسف والمحزن معا ان الدواعش يجيدون تسويق جرائمهم البشعة بطريقة إعلامية محترفة بينما إعلامنا الحربي الذي نراه بالوقت الحاضر لا يعادل قطرة دم واحدة من جندي شهيد في ساحات الوغى .