((إن لم تَسْتَطِع قول الحق . . فلا تُصَفِقْ للباطل)) .
مقولة إستهوتني كثيراً ومن ضمن كثير من الأقوال والأحاديث للأنبياء والأئمة والعظماء ، والتي أسجلها دائماً في مفكرتي لأستفيد من الحكمة والتجربة التي تدل عليها . .
وكنت أنوي أن أجعلها عنوان لإحدى مقالاتي ، لكني لم أجد موضوعاً يصلح ليكون مقالاً لهذا العنوان .
واليوم بعد أن أدركت أن الوطن أصبح قاب قوسين من حافة الهاوية ، بسبب الجهل والمراهقة السياسية التي يتصرف بها سياسيوا الصدفة الذين إبتلانا بهم الإحتلال البغيض ، وإصرار البعض منهم على قلب الباطل وجعله حق ، وإصرار البعض الآخر على قلب الحق وجعله باطل ، وجدت أن من المناسب إستعمال هذه المقولة علّها تكون مدخلاً لما اُريد فيه إصلاح هذه الأمّة .
الحق الذي ضاع في بلدٍ ضاعت فيه كل القيم والمبادئ التي تربت عليها الأجيال وعرفناها وألفناها منذ نعومة أظفارنا ، بسبب الإنتهازيين الذين دخلوا وغيروا مفاهيمنا ومبادئنا .
الحق الذي ضاع بين هذا وذاك ، وصار الشعب الغلبان ورقة مساومة يتساومون عليها وكأنه بند في إتفاقية لا قيمة له .
قررت أخيراً إستعمال المقولة ، بعد أن إستذكرت موقف أحد السياسيين في الرمن القريب ، الذي كنت أعتبر وجوده كمالياً لاضرورة له ، بل لاأخفيكم سراً أني كنت أعتبره عالة على الدولة العراقية ، لأن وجوده فخري كما نص عليه الدستور ، أعاده الله مشافى لوطنه .
فمنذ سقوط نظام الطاغية ودخول قوات الاحتلال ، رُسِمتْ خارطة طريق للعراق بناءاً على تقسيمات وضعها المحتل للفرق السياسية لتعيش بأزمات وخصومات دائمة مع بعضها ، فهي لاتتفق على شيئ إلّا وتختلف عليه ، وهذه سياسة الصهيونية العالمية للسيطرة على الشعوب والمقدّرات .
كما أن جميع ذيول الزعامات منقسمون مع هذا الطرف أو مع ذاك وبتطرّف ، ولم أصادف فيهم أحداً ينتهج الوسطية والإعتدال (إلّا من رَحِمَ ربي منهم) حتى لو إدّعى أنها منهجه .
وليس غريباً سماع أصوات النشاز من هنا او هناك لأن من أسوَءْ مساوئ الديمقراطية أنك تضطر في أحيان كثيرة لسماع أصوات الحمقى التي لاتُغني عن جوع ولاتُسْمِنْ من شبع .
وليس بالغريب أن هذه الأزمة كشفت مدى سطحية بعض القيادات وتفاهة وهشاشة بعض التحالفات التي بُنيت على تقاسم الغنيمة بعيداً عن المصلحة العامة .
وصحيح أن السياسة هي فن الممكن وإنتهاز الفرص لكنها أيضاً الوسيلة الشريفة (غالباً) لتحقيق أحلام الفقراء وإنتهاز الفرص لنشر القيم والمبادئ ، لكننا نجدها بالعراق قد إبتعدت عن أي خلق أو مبدئ فالغاية فيها تبرر الوسيلة حتى لو كانت الوسيلة لاتندرج ضمن سياقات الشرف والمبادئ .
ويحضرني مقولة لأحد أبناء الصحابة ذكرها في موقف عندما سألوه :
لماذا أنت تقف في الوسط ولاتأخذ موقف من الخصومة التي بين أبيك وعلي بن أبي طالب وأيّهُمْ أحق بالخلافة . .
فقال لهم رغم أن خليفة رسول الله الآن هو أبي ، لكني أرى أن كل واحدٍ منهم يلزمه أمام الله والناس إجتهاده بالبحث عن الحق والحقيقة والنوايا يعرفها الله .
فأنا لايعنيني موقف أيٍ من الفريقين المتخاصميّن اليوم بالعراق لأني مؤمن أن كل منهم يرى نفسه صاحب الحق وأن إجتهاده هو الصواب ، رغم أن الله وحده يعلم نيّة كلٍ منهم ، وكلمة لايعنيني لاتعني أن ليس لي موقف مما يجري لكن في أحسن الأحوال يمكن أن يَحسبني هذا الطرف أو ذاك متفرّج مثقف (فقط) دون الحاجة لثقافته وعلمه .
ولم أتفاجئ اليوم حين لا أجد أن من بين الموجودين من يمكن أن يتعامل مع الأزمة بوسطية وإعتدال وحكمة ممزوجة بشجاعة الخبرة والتجربة ، لأن الجميع يفتقدها ، ولأننا حقاً بحاجة لوسطية وإعتدال وحكمة من نوع جديد ليست موجودة فيهم ، لنوع من الإيجابية لم نعهدها بالعراق على أقل التقديرات .
لقد أوحت لنا هذه الأزمة أن من أهم بنود الشراكة التي يجب الإلتفات لها والإلتزام بها هي القدرة على إحترام التعايش المتبادل بين الفرقاء او الفرقاء والخصوم .
إن تيار الإعتدال الجديد المنشود والذي يسبح ضد التيارات المتطرفة المتلاطمة في البحر الهائج ، تيار يتصف بالحكمة والوسطية بين سياسيين كان أصل واجبهم هو صنع الحياة الجديدة بالوطن القديم الجديد ، لأن وكما هو معروف عند الأسوياء ، الإختلاف بالرأي لايجب أن يفسد للود قضية ، ولا يجب ان يتحوّل الوطن بسبب الخلاف الى حلبة صراع دامي بين خصوم تعاهدوا على خدمة شعبهم .
ولا أظن أن أحد الزعماء السياسيين (كما يحلو للبعض تسميتهم) قد مرَّ بإمتحان مثل إمتحان أزمة اليوم ، فأنا أرقب عموم الحالة (كمراقب سياسي) وأرى الموقف الصعب الذي لايُحسد عليه أحد ، فبإشارة أو إيحاء من هذا الطرف او ذاك سيدخل العراق في هاوية لاقرار لها وحربٍ لامعنى لها .
ورغم كل تحفظاتي على السياسيين الجدد والعمل الحكومي والسياسي العام بالعراق ، لكني أجزم أن مواقف سياسي اليوم تفتقد عمومها للوسطية والإعتدال في التعاملات بل كانت ولا زالت في أغلبها تفتقر للدبلوماسية والحكمة .
ولم نرى لليوم موقفاً رائعاً من أحدهم تعامل به مع الأشقّاء المتحاربين ، ليكون وسطاً يَنصر الوطن فيه عليهم ، حيث أبعد الجميع نفسه عن الحيادية ، بل شارك الجميع بالإنفعال والغضب وأطالة عمر الأزمة ، لذلك لم تهدأ النفوس ولو بشكل نسبي .
وكان الواجب ان يكون شعار المتخاصمين (التسامح قبل التصالح) خدمة للوطن والشعب ولتفكيك وحلحلة الأزمة ، ويجب ان يكون هناك تيار وخط وطريق جديد ننتمي إليه ونسير به لإحتواء الهستيريا التي أُصيب بها الجميع .
ونرى أن العقل والمنطق والواجب يوجب علينا البدأ اليوم ببناء ودعم الفرق الوسطية ، وتشجيع الكوادر السياسية والمثقفين المستقلين الإنخراط فيها ، هذا إذا كنا نريد بناء الوطن والدولة والحكومة والمؤسسات الحقيقة .
قال غاندي زعيم الأمة الهندية :
إعمل ، فسيتهزؤا بك ، فإستمر إعمل بإخلاص فسينتقدوك ، فإستمر إعمل بإخلاص ، فسيحاربوك ، فاستمر إعمل بإخلاص الى أن يؤمنوا بك .
لذلك أرى أنه يجب ان يكون مشروعنا المستقبلي لبناء الوطن هو الوسطية والإعتدال ، والتنمية والاخلاق ، وسد الثغرات في الجبهات ، وبناء المجتمع ومساعدة الناس .
ولنؤمن إًذا لم نستطع قول الحق في موقفٍ ما ولسببٍ ما ، فليس علينا مجاملة الباطل والتصفيق له على أقل التقديرات .
وإذا كنا نريدها ديمقراطية فلنتعايش مع بعض وليسمع كلٍ منا رأي الآخر ولنتشارك بالوطن ، وإلاّ سندفع الوطن ثمن للديكتاتورية !!!
لك الله ياوطن . .
لك الله ياعراق