ظاهرة قتل النفس |
الإنسان لا يدرك معنى الحياة إن لم يعرف مغزى الموت وهو ينفرد بقابلية التفكير في المستقبل حيث تدور في خلده أسئلة كثيرة حول مصيره والصراع المستمر مع الحياة , فترى اهتزاز القيم الاخلاقية وتحلل القيم الروحية واضمحلالها وطغيان النزعة الفردية والمصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة وضياع الانسان بين الأجواء المادية دون ان يحدد لحياته مساراً أو هدفاً معيناً وفي هذه الحالة تصبح حياته تحت تأثير مجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية فيغدو الناس عاجزين أمامها لا حول لهم ولا قوة في التخلص منها دون ان يدفعوا الثمن الذي قد يكون اعز ما يملك الإنسان وهو حياته. ولغرض تسليط الأضواء على هذه الظاهرة أثرنا تقديم هذه الدراسة ليكون القارئ على بينة منها. ماهية الظاهرة وحجمها عرف الانتحار بأنه ( قتل الشخص نفسه مدمراً ذاته بصورة طوعية ومقصودة ) وتعريف آخر للانتحار هو ( قتل الذات بذاتها تحت ضغط عوامل نفسية واجتماعية وعقلية والانتحار ليس مرضاً جسمياً أو وراثياً وإنما هو حالة نفسية تكمن في عقل الانسان ) والانتحار نوعان فردي وجماعي , فالنوع الأول يقوم به الشخص ضد نفسه والنوع الثاني عندما يتفق مجموعة من الناس على القيام به بصورة جماعية ومثال ذلك عملية انتحار الأب (جونز) في أمريكا في عام 1974 والتي راح جراءها 800 شخص تقريباً في احدى الغابات الأمريكية حيث شربوا جميعاً عصير برتقال ممزوج بسم السيانيد وتكرر الحال في عام 1997 من قبل 39 شاباً وشابة في أمريكا أيضاً. إن جرائم الانتحار شأنها شأن الظواهر الاجتماعية والإجرامية التي تعاني منها كافة المجتمعات فهي ترتبط من حيث حجمها وأسلوب ارتكابها بعوامل كثيرة , منها درجة تحضر المجتمع والعلاقات الاجتماعية السائدة فيه ومدى علاقة الفرد بأسرته ودرجة وعي الفرد وثقافته إضافة الى عوامل أخرى منها العامل الديني والنفسي والاقتصادي وغيرها من العوامل التي تحدد حجم الظاهرة في كل بلد مع عدم استثناء العوامل الخاصة مثل ازدياد حجم هذه الظاهرة صيفاً أو مع ظهور نتائج الامتحانات. نبذة تاريخية عن الظاهرة وموقف الدين وعلم النفس والقانون أولاً: نبذة تاريخية عن الظاهرة: ظاهرة قتل النفس سلوك بشري عريق وجد منذ أن عرف الانسان معنى الموت والحياة وندرت الدراسات على المجتمعات البدائية القديمة وكل ما نعرفه الآن هو مجموعة من تعليقات وحكايات مقتضبة من الرحالة وأعضاء البعثات الاستكشافية وقله من علماء الأجناس البشرية. إن ( شتاينمتز ) أحد علماء الأجناس البارزين تفرغ لظاهرة الانتحار وخرج بالرأي والانطباع اللذين مآلهما أن (ميل البدائيين والمتوحشين للانتحار هو اكثر من المتحضرين) ولعل احسن الدراسات الانثروبولوجية وأدقها هي دراسة ( كوتي دويسي) عن اربع مئة مجتمع بدائي في جميع انحاء العالم حيث توصل الى تعزيز الرأي القائل بأن (الانتحار قديم قدم العنصر البشري وعريق عراقة الموت). يعتبر القرن الخامس الميلادي بداية اعتبار الانتحار اثما وفعلاً مستهجناً شنيعاً عندما هاجم القديس (أوغسطين) الانتحار . ويبدو أن قتل النفس كان مغروساً في الإنسان البدائي وأن المسيحية عند بداية ظهورها وانتشارها لاقت صعوبة في الوقوف بوجه هذه الظاهرة, وهناك دراسات أخرى في هذا المضمار تذكر لنا مواقف مستهجنة من الانتحار قبل ظهور الدين المسيحي , فشريعة (حمورابي واورنمو) القديمة لم تتضمن شيئاً عن الانتحار بل تضمنت القتل الخطأ وكذلك الحال فيما يخص حضارة مصر القديمة , اما في الحضارة الإغريقية فقد كان اليونانيون القدماء يقطعون يد المنتحر بعد موته رمزاً على عقابه وكان الانتحار وسيلة لعقاب الجرائم الكبيرة إذ يطلب من المحكوم عليه بالإعدام تناول السم بيده كما حدث عند إعدام الفيلسوف ( سقراط) وفي هذا الصدد يقول الشاعر المصري (احمد شوقي) واصفاً هذا الموقف المأساوي . سقراط أعطى الكأس وهي منية شفتي محب يشتهي التقبيلا أما الرومان القدامى فقد حرموا المنتحر من إجراء مراسيم الدفن له وترك جثته هدفاً لافتراس الحيوانات بالإضافة الى مصادرة أملاك المنتحر من قبل الدولة – هذا وإن معظم الفلاسفة القدماء كأفلاطون وأرسطو استنكروا الانتحار واعتبروه سلوكاً لا أخلاقياً. ثانياً: موقف الدين: تباينت مواقف الأديان السماوية من ظاهرة قتل النفس من حيث الوضوح والدقة في التعامل مع هذه الظاهرة إلا أنها اتفقت على تحريم الانتحار وقتل النفس بدون حق. اليهودية والانتحار اليهودية لم تمنع الانتحار شرعاً وقد درس (شباير) الانتحار عند اليهود في القديم والحديث وتبين له أنهم في حضارتهم القديمة لم يحرموا ولم يحبذوا بنفس الوقت قتل النفس ولكننا في مراجعة للتاريخ القريب نلمس ازدياد حجم هذه الظاهرة بينهم وخاصة في أيامهم التي قضوها تحت الحكم النازي , إذ لجأوا الى الانتحار جماعات جماعات بسبب ازدياد المصاعب والاضطهاد في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها, وفي عهد النبي موسى عليه السلام أوجب الله سبحانه وتعالى الانتحار على كل من عبد العجل من بني اسرائيل ليتقبل توبتهم حيث قال تعالى في سورة البقرة (( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا انفسكم ذلك خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم)) ففعلوا ذلك حتى قتل منهم في ساعة واحدة نحو سبعين ألفاً , وقد اختلف في تفسير هذه الآية جماعة المفسرين إذ يوهم بجواز قتل النفس أو على أقل تقدير يعتبر ظاهرة الانتحار مقبولة في ظروف خاصة في تلك الفترة التاريخية. المسيحية والانتحار المسيحية في أول ظهورها لم تكن أولت اهتمامها بقتل النفس ولم يحرمه الإنجيل صراحة , ولكن كثرة حوادث الانتحار حفزت رجال الدين المسيحيين الى اتخاذ موقف حازم وصريح منه وكان ذلك على يد القديس ( أوغسطين) كما ذكرنا في أوائل القرن الخامس للميلاد وصدرت بعد ذلك عدة قرارات بتحريم الانتحار باعتبار أنه جريمة وخطيئة , لأن الحياة ملك لله , ولم يسلط الله انساناً على نفسه , فكما أن الإنسان لا يستطيع أن يهب الحياة لنفسه , فليس له حق انتزاعها. الإسلام والانتحار لقد أعلن الدين الإسلامي صراحة في القرآن الكريم والسنة بأن قتل النفس خطيئة وحرام وقد قال تعالى في سورة النساء (( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيرا)) ويقول جل شأنه في سورة الإسراء (( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)) إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وفضله على كثير من خلقه وقررت شريعة الإسلام حقوق الإنسان في أروع صورها وأول هذه الحقوق هي حق الحياة ولا يحل انتهاك حرمته , وإن نفس الإنسان ليست ملكه على الحقيقة وإنما هي بمثابة الوديعة فمالكها هو الله سبحانه وتعالى , لذلك نهى الإسلام عن قتل النفس وحتى الدعاء بالموت أو التحريض على الانتحار , وجاء هذا التحريم في القرآن الكريم والسنة النبوية بصورة قاطعة حيث يقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم ): (( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً, ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً, ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) . ووعد المنتحر بعذاب شديد وغيرها من الأدلة التي تؤكد أن قاتل نفسه في النار. الانتحار قد يكون عمداً, وقد يكون خطأ وكلاهما محرم , وإذا تمت عملية الانتحار وانتهت حياة الانسان فلا عقوبة عليه , لأن العقوبة تسقط , أما إذا لم يمت من حاول الانتحار عوقب على محاولته بعقوبة تعزيرية , وتحرم الشريعة الاسلامية كذلك إصابة الإنسان نفسه بأذى عمداً أو خطأ كأن يجرح نفسه أو يقطع طرفه وعقوبته تعزيرية أيضاً. ويمكننا القول أن انخفاض نسبة حوادث الانتحار في المجتمعات الإسلامية يرجع الفضل الكبير فيه إلى تأثير الوازع الديني في نفوس الناس. ثالثاً: الانتحار من وجهة نظر علم النفس:- أشار علماء النفس وفي مقدمتهم فرويد إلى أن الإنسان تسيطر عليه بعض الغرائز الفطرية التي تدفعه أن يتصرف بشكل معين من أجل اشباعها وهذه الغرائز هي غريزة العدوان التي تدفع الإنسان إلى المقاتلة والاعتداء , فالعدوان سلوك غريزي هدفه تصريف الطاقة العدوانية التي تنشأ داخل الإنسان عن غريزة العدوان وتلح في طلب الإشباع كإلحاح الطاقة الجنسية الناتجة عن غريزة الجنس ويعتبر فرويد من مؤسسي نظرية غريزة العدوان حيث افترض وجود غريزتين هما غريزة الجنس وغريزة العدوان واعتبر عدوان الإنسان على نفسه أو على غيره تصرفاً طبيعياً لطاقة العدوان الداخلية التي تنبهه وتلح عليه في طلب الإشباع ولا تهدأ إلا إذا اعتدى على غيره بالضرب أو الاعتداء أو القتل أو اعتدى على نفسه بنفس الأساليب. رابعاً: الانتحار وموقف القانون:- يلاحظ أن قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 لم يفرض أية عقوبة على من شرع في الانتحار ونجا منه , لكن نص على جريمة التحريض والمساعدة على الانتحار في المادة (408 عقوبات) التي ذكرت (يعاقب بالسجن مدة لا تزيد عن سبع سنوات كل من حرض شخصاً أو ساعده بأية وسيلة على الانتحار وتكون العقوبة الحبس إذا لم يتم الانتحار ولكنه شرع فيه وإذا كان المنتحر لم يتجاوز 18 سنة أو ناقص الإدراك عد ذلك ظرفاً مشدداً ويعاقب الجاني بعقوبة القتل العمد أو الشروع فيه بحسب الأحوال إذا كان المنتحر ناقص الإدراك والإرادة ) أما قانون العقوبات العسكري العراقي رقم 13 لسنة 1940 فقد عاقب الشارع بالانتحار في جرائم التمارض وإلحاق الأذى بالنفس بقصد التخلص من الخدمة العسكرية بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر. الآثار والمخاطر التي تفرزها ظاهرة الانتحار الآثار والمخاطر الناجمة عن ظاهرة الانتحار يمكن إجمالها في النقاط الآتية:- اولا. إن إنهاء الإنسان لحياته سوف يولد لعائلته البؤس والشقاء خصوصا اذا كانت العائلة لا تعرف سبب الانتحار مما يجعلها تعيش في حالة قلق وشعور بالذنب والتقصير بالإضافة إلى كون فقدان أي فرد من المجتمع يسبب خسارة له خصوصاً إذا كان أغلب المنتحرين من الشباب ثانيا . الشخص الذي يحاول الانتحار ويفشل في مهمته يتعرض للخطر من الناحية الصحية إذ قد يصاب بعاهة مستديمة من الناحية البدنية أو العقلية .. وإذا كانت الضحية فتاتاً يولد الشكوك لدى الناس عن سبب الانتحار ومحاولة البعض الطعن بشرفها مما يؤثر بالتالي على سمعة عائلتها ومكانتها الاجتماعية. ثالثا. في كثير من الأحيان قد يقوم الشخص بقتل نفسه موضحاً الأسباب والدوافع من خلال رسالة يتركها أو تصرفاته وأقواله قبل إقدامه على فعل الانتحار . اما في الحالات الأخرى والتي تكون أسبابها غامضة وغير واضحة فإنها تخلق مشاكل كعقدة مع ذويه والمشتبه بهم والقائمين بالتحقيق. تصنيف الأسباب الدافعة إلى الانتحار إن ارتكاب فعل الانتحار هو حالة انعكاس لوضع أو ظرف سلبي عانى منه الفرد سواء كان هذا الوضع أو الظرف اجتماعيا أو نفسيا أو اقتصاديا وهناك تضارب في الأفكار لتفسير هذه الحالة فالبعض من الناس يعتبر الشخص المنتحر صاحب إرادة قوية وشجاع والبعض الآخر يعتبره ضعيف الشخصية وجبان لعدم قدرته على مواجهة الظروف الصعبة ومن أجل إعطاء الصورة الواضحة عن الأسباب التي تدفع الإنسان لاتيان هذا العمل من خلال دراسة وتحليل الحوادث من قبل المختصين يمكن تشخيص أهم هذه الأسباب:- اولا- التفكك الأسري:- يندفع بعض الأشخاص إلى الانتحار بسبب وجوده في أسره مفككه أو ما يطلق عليه ( البيت المحطم) تسود فيها الخلافات والشعور بالافتقار الى العطف والحنان والرعاية ويعتبر البيت كذلك إذا كان مفتقرا لروابط المحبة والانسجام كأن يكون أحد الأبوين مقتولا أو مطلقا أو سكيرا أو مقامرا أو سجينا بالإضافة إلى حالات العلاقات المتوترة بين الأبوين. هذه الأسباب تدفع بالشخص على الإقدام على الانتحار لكي يعاقب عائلته بحرمانها من وجوده وحياته معهم بحسب اعتقاده. فالعلاقات العائلية تلعب دورا كبيرا في دفع البعض إلى قتل النفس والأمثلة على ذلك كثيرة ولا تحصى فكما حصل مع (غروب عباس 21 عاماً) التي فجرت نفسها بقنيلة يدوية داخل منزلها الزوجي في أحد أحياء مدينة صيدا الجنوبية في لبنان حيث نزعت فتيل قنبلة كما يفعل المقاومون وفجرتها أمامها وسقطت متخبطة بدمها لسوء معاملة زوجها لها.أما قصة الشاب ( وحيد واسلاني) فهي أكثر بؤسا , حيث يقول : حين وجدت نفسي في الشارع وحيداً وأنا لا أتجاوز العاشرة وكنت الولد البكر في عائلة تضم أربعة أبناء وكان سبب محنتنا هو والدي , الذي كان مدمناً على الخمر والمخدرات , حيث كان يدخل السجن مراراً بسبب احترافه السرقة والنصب والاحتيال , وكانت فترات دخوله السجن تعد متنفساً لنا ولوالدتنا , لأن أبي كان يضرب أمي ضربا مبرحا حين يعود إلى البيت وهو سكران في ساعات الفجر ويضربني أنا وإخوتي أيضاً , لأننا كنا نحاول الدفاع عن أمنا.ولم تلبث الجهات المتخصصة في الشؤون الاجتماعية ورعاية الطفولة أن تدخلت وقررت نزع مسؤولية تربيتنا من والدينا , وتوزيعنا على دور رعاية الأطفال المشردين , بانتظار إيجاد عائلات ترغب في تبنينا وقد خضع إخوتي الثلاثة لقرارات الاخصائيين الاجتماعيين , أما أنا فتمردت عليها وهربت من دار الرعاية لأجد نفسي في الشارع وأنا في العاشرة من العمر متشردا وأعيش من ممارسة السرقات وقد دخلت السجن 19) ) مرة لفترات متفاوتة , وخلال إحدى تلك الفترات التي كنت فيها مسجونا وكان عمري آنذاك (14) سنة علمت بأنني مصاب بالإيدز وكانت الصدمة عنيفة جدا حيث كنت أقضي طول الوقت في البكاء وحيدا في زنزانتي بانتظار الموت الذي لا مناص منه ولم أكن أفكر في أي شيء إيجابي لأنني كنت أعرف أن الموت يسري في عروقي وقد يحكم قبضته غلي في كل لحظة , وأنا الآن بين خيارين أحلاهما مر فأما التعجيل في وضع نهاية لحياتي أو تحمل الآلام والمعانات وازدراء المجتمع لي إلى أن يحل الأجل. ثانيا- الإصابة بالقلق والمرض النفسي والعقلي:- إن الأمراض النفسية والعقلية التي تدفع المصاب إلى الانتحار متعددة ومنها الاكتئاب والفصام والخرف والانحرافات الجنسية وغيرها والتي تؤثر في تفكير الفرد ونظرته الى الحياة والممات فقد يرى مريض الفصام الحقيقة وهي تتردى وتضمحل ويرى نفسه في دور هامشي في دنيا مليئة بالأوهام قد تدفعه الى نبذ الحياة بالانتحار . كما أن هناك مجموعة من الأمراض النفسية كالقلق والهستريا والشخصية السايكوباثية وهي أمراض لا تؤثر في شخص الإنسان إلى درجة الأمراض الذهانية بل تجعل جهازه النفسي في حالة اضطراب داخلي واضطراب خارجي مع الحلقة الاجتماعية.إن الاصابة بالمرض العقلي يدفع بعض الاشخاص الى الانتحار بسبب عدم وعيهم وتقديرهم لعواقب الأمور حيث تتولد لديهم القناعة التامة بعدم وجود مبرر لبقائهم على قيد الحياة ما دامت نفوسهم غير متكيفة مع الوضع الذي هم فيه وعدم صمودهم بوجه المشاكل والصعاب , فالصحافي الأمريكي ( جون هول 48 سنة) الذي كان يعمل في بيروت وجد قبل فترة جثة هامدة على شاطئ البحر انصب البحث أولا على معرفة ما اذا كانت هناك عملية قتل مدبرة , غير أن التحقيقات التي أجريت فيما بعد بينت أن ( هول) كان يتعاطى المخدرات والكحول وأنه كان مصاباً بحالة اكتئاب شديدة بسبب وفاة والده. ثالثا- الإدمان على المشروبات الكحولية والمخدرات:- إن ادمان الانسان على المخدرات والمشروبات الكحولية له تأثير بالغ على عقله وجسمه وأعصابه وتنقله الى عالم الأوهام ويتصرف بلا وعي في بعض الأحيان وقد يقدم على الانتحار بعد أن يصل إلى حالة الضياع النفسي وتحطيم شخصيته , فالإدمان هزيمة من واقع مر, وقد يستبدل المدمن الهزيمة الدائمية ( الانتحار) بهزيمة وقتيه ( الإدمان) أو قد ينحدر تدريجياً إلى مرض عقلي دائمي وخوف والملاحظة الجديرة بالذكر في مجال الإدمان هو أن ليس كل من يتناول الخمر يصبح مدمناً , ولكن كل مدمن لا يتمكن من السيطرة على كمية ما يتناول من المائدة الكحولية أو المخدرة. رابعا- الأزمــــــات المالية والاقتصادية:- إن هذه الأزمات تحدث في الإنسان انهياراً عصبياً تدفعه إلى اليأس فالانتحار من جراء عدم اشباع الحاجات الأساسية والضرورية للإنسان الذي يصبح في وضع نفسي متخلخل وتشغل تفكيره بصورة دائمة , وتسبب له الملل والسأم من الوضع الذي يعيش فيه فقبل فترة أقدم ( عبد الله الشاهين) الموظف في إحدى الدوائر الحكومية اللبنانية على الانتحار لضآلة مرتبه وكان يرفض الرشاوى مع أنه كان يساهم في تحمل نفقات بيته وإخوته وبدأت حالته تتدهور يوما بعد يوم حتى تملكه اليأس على الرغم من إيمانه العميق وقد ترك رسالة , ومما جاء فيها (( إنني سئمت من هذه الحياة ولا أرى معنى لها لأنها أصبحت حياة فساد في فساد ولا مستقبل فيها , فقد قاموا بتدمير حياتنا لقاء بناء قصورهم وعظمتهم ولم يهتموا أبداً بوضعنا ومستقبلنا)) خامسا- الإصابة بالأمراض الجسمية:- إصابة الإنسان ببعض الأمراض الجسمية قد تدفع به إلى إنهاء حياته أو طلب الموت بصورة صريحة أو لا شعورية وخاصة عندما يكون المرض مزمناً ومن نوع الأمراض التي لا يرجى شفاؤها والتي تسبب له الآلام وما يولد عند المريض من شعور بالسأم والكآبة والقنوط , فالشاب ( سمير طالب) كان يعاني من مرض السرطان وأخبر الأطباء عائلته بأن إجراء العملية تكلف الكثير من المال ولعلمه بواقع حال عائلته المعيشية وتحت وطأة الألم واليأس أقدم على الانتحار. سادسا- العلاقات العاطفية:- إن فشل العلاقات العاطفية وعدم تحقيق الهدف من العلاقة بسبب الخيانة أو وفاة طرفي العلاقة يؤدي الى شعوره بحالة من الفراغ النفسي لذلك يندفع بعض الأشخاص إلى الانتحار أما بسبب التأثر أو بسبب الانتقام كما أن حالات الاعتداء الجنسي تحت غطاء العلاقة العاطفية الشريفة والتي قد تسبب الإضرار بالفتيات يؤدي بهن إلى الانتحار بسبب افتضاح أمرهن داخل المجتمع. سابعا – حالات الفشل:- من الحالات والأسباب التي تؤدي أو تقود بعض الأشخاص إلى الانتحار حالات الفشل التي تواجههم في حياتهم فالإنسان يخطط ويعمل لتحقيق كل ما يدور في خلده من أفكار تخص مستقبله ولكن حدوث العكس وظهور نتائج عكسية بعيدة عن توقعاته يؤدي به إلى تحطم أحلامه وفشل كل ما خطط له الأمر الذي يجعله في وضع نفسي غير مستقر ويشعر بأنه إنسان فاشل في الحياة مما يقوده تفكيره إلى وضع حد لهذه الفشل بإنهاء حياته , فكثيرا ما نسمع بأن التاجر الفلاني قد انتحر نتيجة خسارته في صفقة تجارية أما حوادث انتحار الطلاب فهي كثيرة وتبرز عند ظهور نتائج الامتحانات والسبب وراء إقدام الطلاب على الانتحار هو الخوف الشديد وهذا أمر وثيق الارتباط بظروف النشأة الاجتماعية كأن تشعر الأسرة الطالب أنه غير مرغوب فيه وهذا ما تجسده عبارات الأهل للطالب الفاشل ( موت أحسن لك)أو ( خسارة الفلوس التي صرفت عليك) وغيرها من العبارات دون الالتفات الى الاسباب الأخرى التي أدت إلى فشل الطالب , والانتحار بين لاعبي القمار معروف وهو مشهد اعتيادي في (مونت كارلو) وغيرها من نوادي القمار. ثامنا- عقاب الذات:- قد يتصرف الإنسان تصرفاً يؤثر على مكانته وسمعته داخل العائلة والمجتمع لذلك يقدم على الانتحار خوفاً من افتضاح أمره , وكذلك عدم قدرته على مواجهة الآخرين أو قد يرتكب ذنباً أو سلوكاً يكون سبباً في إلحاق الأذى البدني أو النفسي أو خسارة مالية بشخص عزيز عليه. تاسعا- الانتحار السياسي:- الانتحار السياسي لا يختلف بدوافعه عن كل انتحار آخر إلا في كونه يعبر عن (وضع سياسي) بسلوك اعتيادي والانتحار السياسي لم يقتصر على القرن العشرين بل وجد قبل قرون عديدة من تاريخ الإنسان السياسي إلا أنه برز في هذا القرن وخاصة في الثلاثين سنة الأخيرة ( والامتناع عن الطعام والصوم) الذي اشتهر به الزعيم (غاندي) ومن بعده كثيرون من السياسيين هو محاولة انتحارية أو ( تهديد بالانتحار) من أجل الضغط على الآخرين.والانتحار السياسي ينفذ بصيغ مختلفة ومقاصد متعددة فقد ينتحر الشخص عندما يصبح في موقف حرج بهدف عدم الكشف عن الحزب أو المنظمة التي ينتمي إليها من خلال استجوابه. أو قد يحرق الشخص نفسه بشكل علني احتجاجاً على موقف سياسي أو موت في سبيل الجماعة التي ينتمي إليها , وفي تاريخ العراق السياسي حادثة انتحار ( عبد المحسن السعدون) الذي كان رئيساً للوزراء في عام 1929 ورئيساً لحزب التقدم وكان قد ترك رسالة إلى ولده ( علي ) بالتركية بين فيها أن انتحاره جناية كان لا بد منها لأنه سئم الحياة التي خلت من اللذة وأخيراً ومن مشاهير المنتحرين (نيرون) , دس خنجرا مسموما في معدته , (مارك انطوني) القائد الروماني عشيق (كليوباترا) تناول السم , وتبعته كليوباترا بالأفعى السامة حزناً على حبها , أو هروبا من الهزيمة العسكرية والفضيحة (هتلر) انتحر في آخر لحظات اندحاره مع عشيقته ( إيفا براون ) وانتحر القائد الشهير (هانيبال) على أثر هزيمته مع الرومان في معركة (زاما) . الـوقـاية مـن الانتحـار الوقاية من الانتحار عمل لا يقل خطورة عن الوقاية من الأمراض والأوبئة الأخرى كالهيضة أو الجدري أو الملاريا وجميعها أمراض قد ينجو منها المصاب , أما الانتحار التام فهو طريق لا رجعة منه والقانون لم يعالج ولم يثبت فعاليته في منع الانتحار واقتصر دوره على معالجة حالات التحريض على الا نتحار من خلال فرض العقوبات على محرضي هذا الفعل , لذا فالوقاية منه هو مسؤولية جماعية تستلزم الدراسة الدؤوبة من رجال مختصين في علم الاجتماع والطب النفسي بغية توضيح الأدوار والمسؤوليات في مجال الوقاية من الانتحار ويمكن تلخيص وسائل الوقاية بما يأتي:- اولا- على الأسرة أن تعطي الاهتمام الجدي والمتابعة المستمرة لأفرادها خصوصاً في مرحلة المراهقة وتلبية كافة متطلباتهم المشروعة قدر الإمكان وأن تتسم معاملة الأبناء باللين والتسامح وغرس القيم الفاضلة في نفوسهم وتجنب المعاملة القاسية والتسلطية التي تولد روح العداء والكره لدى الأبناء تجاه العائلة , الأسرة عليها أن لا تهمل وضع الفرد الذي يحاول الانتحار وإنما تقع على كاهلها المسؤولية الكاملة في عدم عودته مرة أخرى إلى الانتحار من خلال التعرف على السبب والتأكيد على العلاج اللازم مع الاهتمام بالأفراد المصابين بأمراض نفسية وعقلية. ثانيا- ضرورة مشاركة جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية المعنية في هذا المجال وأن تؤديدورا مهماً وبارزاً في وقاية الشباب من الانحراف فالمدرسة والمسجد والمؤسسات الإعلامية تستطيع من خلال استغلال امكانياتها التأكيد على الجوانب الأخلاقية وحث الإنسان على الصبر وحسن التعامل. 3- بما أن عامل الفراغ له أكبر الأثر في انحراف الفرد ودفعه للقيام بتصرفات غير مقبولة وشاذة تؤثر على عقله وأعصابه , وربما تؤدي به إلى ارتكاب فعل الانتحار , الأمر الذي يستوجب ويستلزم اشغال أوقات فراغ الشباب من خلال توفير ومنح فرص العمل لهم واستثمار طاقاتهم ومواهبهم بالشكل الأمثل وحسب قابلياتهم , كذلك توفير وسائل اللهو واللعب البريء والمكتبات والنوادي العلمية والرياضية والمسارح والمسابح التي تضمن قتل الفراغ. الـخـلاصــــــة إن الانتحار مهما تعددت دوافعه وأساليبه يبقى عاملاً عدوانياً يوجهه الإنسان ضد نفسه ولا يلجأ إليه إلا من كان لا يقوى على تحمل أعباء الحياة , فالحياة تبقى ثمينة ونفيسة على الرغم من مصائبها ومشاكلها وصعابها التي تحملها معها ولا يحق للإنسان – مهما كانت الظروف – القضاء عليها قبل أن يحين أوانها , إنها سنة الحياة وما على الإنسان إلا أن يستجيب ويذعن لهذه السنة فيرضى بواقعه ويتكيف معه ويعيشه بإرادة قوية وأمل نحو المستقبل . |