رواتب القضاة في بريطانيا

 

القاضي ضمير ومهنة القضاة مهنة خطيرة وعظيمة وتتعلق بمصائر الناس وبردع المخالفات والقمع والانتهاكات وفي الأثر المحمدي العظيم (ص) (قاض في الجنة وقاضيان في النار) نظرا لخطورة ما يتخذه من قرارات قد تكون في بعضها اجحاف بحقوق الناس وإساءة الى كراماتهم لان العواطف والانفعال وتشوش الصورة امام القاضي قد تدفع هذه العوامل متفرقة او مجتمعة الى التهور او اتخاذ القرار غير المدروس بحق مظلومين او متضررين من فعل الغير. في مجلس المفكر والوزير والاديب الكردي الكبير المرحوم مسعود محمد حضرته شخصيا في أوائل التسعينات من القرن الماضي في منزله المتواضع بحي الشرطة الثالثة في الكرخ بالجانب الغربي من بغداد دار السلام تحدث المفكر الكبير في مجلسه عن رواتب القضاة في بريطانيا فقال: للقضاء في بريطانيا.. السلطة العظمى فهو سلطة السلطات وهو حامي حقوق الناس والمراقب الراصد الدقيق للخروقات والتجاوزات على القوانين والأنظمة والناس فلا تفوته شاردة او واردة الا وتصدى لها القضاء والقانون يكفل سيادتهما وحفظ حقوق الدولة والناس لذلك فهناك عُرف في بريطانيا بأن القاضي ليس له راتب ثابت محدد ومقرر انما عنده حق في ان تكفل له الدولة تأمين احتياجاته بما يضمن له سبل العيش الكريم المرفه كيلا يتحول فكره من أداء عمله بصورة اكفأ لخدمة الناس وضمان حقوقهم الى كيفية تأمين حاجاته الضرورية والخاصة عبر وسائل غير قانونية تؤثر على سمعته الشخصية فيفقد مصداقيته في عيون الناس ويظلم او يتعسف في حقوقهم بفعل مؤثرات الحاجة على اية حال فالعرف في بريطانيا ان يذهب الى أي مصرف في البلد ويكتب له حاجاته لذلك الشهر بشكل جيد فيدفع له المصرف ما يريد بفعل العرف الذي هو اقوى من القانون دائما هناك.. وفي احدى المرات أراد احد القضاة ان يتحقق من مصداقية الحكومة البريطانية في انها كما هو الشائع تدفع للقاضي كل ما يطلب من المصرف فذهب الى احد المصارف وقدم طلبا تحريريا بعد ان ابرز هويته الشخصية قاضيا يريد من المصرف ان يدفع له خمسة ملايين باوند ذلك الشهر وعندما قرأ مدير المصرف طلب القاضي طلب ان يمهله لبعض الوقت كي يوفر له المبلغ المطلوب لان خزينة المصرف تفتقد الى مبلغ كبير كهذا وعليه ان يتدبر الامر مع مصارف أخرى.. وفي خلال دقائق تقاطرت على بناية المصرف من الخارج سيارات المطافي والاسعاف الفوري والنجدة وامتلأ المبنى بالشرطة (قوات خاصة) بشكل لفت نظر القاضي مما حدا به ان يسأل احد الموظفين في المصرف بقوله: يبدو ان ثمة حالة طوارئ معلنة هنا ترى ما سبب ذلك؟

فأجابه المواطن بابتسامة عريضة: كل هذا يجري بسببك ولتأمين وصول المبلغ الذي طلبته من المصرف بأمان والى المكان الذي تريده شخصيا فعجب القاضي من الامر واسرع الى مدير المصرف ليقول له: ان طلبه للمبلغ كان مجرد مزحة فحاجته الشخصية اقل بكثير مليون مرة من هذا المبلغ المطلوب انما أراد ان يتحقق من مصداقية الدولة بهذا الخصوص فأجابه المدير: كلا.. فلو طلبت كل ميزانية بريطانيا لتكفلت الدولة بتأمينها اليك فهذا عرف مضى على تطبيقه اكثر من الف ومئتي سنة لكن القاضي قال له: لا حاجة لي بهذا المال انه كثير جدا جدا جدا ولا اريده. فأجابه المدير: كلا.. كلا.. لا استطيع فالذي طلبته هو ملك شخصي لك الان واعلمنا بالمكان الذي تريد ان نوصل المال اليه وامام إصرار القاضي على إعادة المبلغ ورفض المدير لذلك لان هذا يضعه تحت طائلة القانون قرر القاضي ان يؤمن المبلغ في المصرف ريثما يجد حلا.. لاعادته للدولة.. وهنا نصحه مدير المصرف ان يذهب الى وزير الخزينة (وزارة المالية)

عله يستعيد المبلغ ويودعه في خزينة الدولة مرة أخرى. وفي اليوم التالي توجه القاضي الى وزير الخزينة وطلب اليه إعادة المبلغ الى الخزينة فرفض الرجل بادب جم الطلب قائلا: لا تجعلني اتحمل وزر سابقة تاريخية لم يسبقني اليها احد لكنه نصحه ان يذهب الى جلالة الملكة فربما عندها حل لهذا الموضوع. قابل القاضي الملكة وابلغها برغبته في إعادة المبلغ الى الدولة لكنها وابتسامة تشرق على شفتيها، قالت له: المال مالك ولا سلطة لاحد ان يعيده الى خزينة الدولة.. غير انها ابلغته بانه يمكنه الذهاب الى رئيس الوزراء بوصفه حلا رئيسا للسلطة التنفيذية لعله يجد للمشكلة. ثم ذهب القاضي الى رئيس الوزراء وابلغه برغبته في إعادة المال الى الدولة فرفض رئيس الوزراء ذلك رفضا باتا فقال له هذا عرف والعرف يجب ان يحترم وأخيرا ذهب القاضي الى رئيس البرلمان البريطاني وطلب منه إيجاد حل لاعادة المبلغ الى خزينة الدولة فرفض هو الاخر الامر لكنه نصحه ان كان لا يريد هذا المبلغ ان يتبرع به الى منظمات رعاية اليتامى والارامل وذوي الحاجات الخاصة.. لان المال ماله الان وهو حر في التصرف به كيفما يشاء.. وهذا ما حصل حقا فقد اخذ القاضي كفايته من ذلك المبلغ الضخم لذلك الشهر وتبرع بالباقي الى المنظمات الإنسانية. على اية حال هذا هو القاضي وهذا هو وضعه في بريطانيا اعرق الأنظمة الديمقراطية في العالم ويذكر التاريخ ان الخليفة (أبو جعفر المنصور) طلب من الامام ابي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ان يتولى القضاء اكثر من مرة وفي كل مرة كان يعتذر من الخليفة بعذر او بغيره لما للقضاء من مسؤولية ومهام عظيمة تستوجب التحوط واليقظة وعمق التفكير والروية لان مصائر الناس بعد الله تقع بين أيديهم.