سعاةُ بريدُ العقل

في تسعينيات القرن الماضي تجولت سيارة نجدة الشرطة تصاحبها ثلاثة سيارات بيك ــ آب وقامت بجمع المجانين والمتسولين من على ارصفة وشوارع المدينة ، وربما احدهم من تبرع خبثا بتزويد الحكومة قوائم بأسمائهم حد الذي جعلت سيارة النجدة تذهب لجلب المجانين والمتسولين من بيوتهم عندما يكونوا ليسوا موجودين في الامكنة التي تعودوا التواجد فيها ، وكانت حجة الدولة القضاء على ظاهرة التسول وان وجودهم ظاهرة غير حضارية تعكس بؤس المدينة الذي كانت تعيشه الناصرية أيام الحصار.
شعرنا ان ما أمر به المحافظ بتوقيع قلمه الاحمر هو اجراء جائر وتعسفي لأن الكثير من هذه الوجوه الفتها المدينة وأستأنست اليها وصارت جزء من ظاهرة اليوم الناصري ما داموا لم يأذوا أحدا.
 فبعض وجوه المجانين ممتلئة بالبلادة والمسكنة والطيبة والظرافة مثل كاظم الحلو الحباب وجليل المتحطم ومجنون يسمونه السيد كان يقف في الاشارة الضوئية لبهو البلدية يجبر سواق السيارات على الدفع له.
وهناك مجانين يظهرون في مجتمع المدينة فجأة لاتعرف اصولهم ومن اين جاءوا ، فيسكن الظن الناس أن هؤلاء أنما هم جواسيس لجهة أمنية حد الذي يصل الى البعض ليعطيهم رتبا مفترضة مثل ضابط أو مفوض أمن.
وهذا ما ظنه الناس مع مجنون كان ظهر فجأة في سوق العبايجية بعد انتهاء حرب غزو الكويت في بداية التسعينيات ويرتدي السترة والعقال ويمشي بعصبية وهو يصرخ ( ما نطيها ) . ونسب اليه انه كان نائب ضابط ، ولانه ليس من اهل الناصرية فقد زرع الشك والريبة في قلوب الناس.
وهم يتذكرون حكاية متداولة تحكى عن درويش عاش متسولا على ابواب الائمامين في سامراء وبالآخر ظهر أنه عميل للمخابرات البريطانية.
للمجانين عالم خاص له جماليته وخصوصيته في مدينة تعلم ابناؤها ان يكونوا لطفاء طيبين مع هذه الكائنات التي تحمل عقلها في مظاريف رسائل حكمة غريبة في الهدوء والتصرف والحكم على الاشياء حتى عندما يكون المجنون عنيفا ومستفزا من قبل الاطفال وهو يصرخون وراه ( جواي ) أو ( شكر احمر ) .
فيما هناك مجانين مثل ( أكريم كوت ) و ( جليل المتحطم ) و ( كاظم الحلو ) و ( أبو خياتي ) و( جبار ابو اطهياه ) الذي كان يسكن الزهيرية لكنهم يأتي الى المدينة كل النهار فأنهم يبتسمون في وجوه الناس ابتسامة تمتلك مغزى المطلق اللامتناهي في الاحساس الذي لايحكمهُ ردة فعل او سعادة او نكته ، أنما هو ( المجنون ) يضحك من اجل كل شيء ، ولأي شيء.
تخيل كل مجانين المدينة في سجن التسفيرات هو كمن يجمع فلاسفة الاغريق في مجلس للبرابرة ، لا أحد يفهم هؤلاء العقلاء ، وبالرغم من انهم كانوا جميعا ينتظرون أمر القاضي بالترحيل إلى مستشفى الشماعية في بغداد إلا انهم ظلوا يبتسمون ويتشاجرون فيما بينهم بعض المرات.
الغريب أن الجميع هطلت دموعهم على خدوهم يوم وضعوهم في السيارة البوكس استعدادا للترحيل الى بغداد . فربما شعروا بالحزن لأول مرة في حياتهم وهم يبتعدون عن حديقتهم التي اسمها ( الناصرية ).