بغداد .. حاضرة ألزمان.. كانت وستبقى في ضمائر الشعراء حاضرة الدنيا وماضيها وستبقى شمسها لا تغيب .. حيث تغنت بها كوكب الشرق .. بغداد يا قلعة الاسود .. يا نبض القصائد وفيض الخواطر وأم الشعوب ..كل من زارها وشرب من عذب مائها وعاش بها صارت حبيبته الثانية .. وتبدأ قصتي من شارع السعدون , ففي حقبة الاربعينات وخمسينات القرن المنصرم تهافتت كبريات شركات الطيران العالمية لفتح فروع لها في بغداد حتى وصل عددها في سنة 1953 الى ثمانية عشر شركة منها شركة لوفتهانزا الالمانية وشركةKLM الهولندية و شركة SAS الاسكندنافية وشركة مصر للطيران وشركة طيران الشرق الاوسط MEA وشركة بان امريكان وشركة الطيران السورية وغيرها الكثير, و جميع هذه الشركات لديها مكاتب في شارع السعدون ببغداد وفروع في القاعة الرئيسة لمطار بغداد المدني ( مطار المثنى حاليا) حيث كان المطار ينبض بالحياة وحركة طائرته لا يعرفن التوقف . وكانت الامور تسير باحترام ومودة بين الموظفين الحكوميين العراقيين و موظفين شركات الطيران الاجنبية كأنهم عائلة واحدة , وكان العراقيون يميلون نحو مجاملة الالمان لأسباب كثيرة . وكانت طائرات شركة لوفتهانزا الالمانية تأتي ثلاثة مرات بالأسبوع الى بغداد ويديرها مدراء المان يتمتعون بأخلاق عالية منهم المستر ركسن والمستر كاتنر المحبوب سريع النكتة وعليه ابتسامة لا تفارقه مما يجعل المقابل في حب ورضا تام , وفي احد الايام اخبر مدير الشركة الالمانية المستر كاتنر اقاربي الذي كان يعمل موظفا في مطار بغداد المدني بأنه سيسافر غدا في الساعة السادسة فجرا على الطائرة المتجه الى روما مع زوجته الايطالية حيث كانت سفرتهم لأمور تتعلق بمكاتب السفر الالمانية المنتشرة في كافة دول العالم . فقال له اقاربي ..( قل ان شاء الله سأسافر غدا ) فأجابه المستر كاتنر بامتعاض .. ولماذا اقول ان شاء الله ..فانا مدير الشركة وقد اصدرت تذاكر السفر وهي بيدي الان والطائرة لا تغادر بغداد إلا بموافقتي شخصيا فلا داعي لهذه الكلمات الزائدة والعابثة .. فستشاط اقاربي غضبا لكنه لم يظهر ذلك فقد كتم غضبه وعدم رضاه على هذه الاجابة . وفي اليوم التالي وقبيل موعد اقلاع الطائرة الالمانية ذهب اقاربي لتوديع صديقة الالماني لكنه تفاجئ بعدم حضور المستر كاتنر ولما سئل عن سبب عدم حضوره... أجابه احد موظفين الشركة الالمان بان المستر كاتنر قد اصيب بانفجار الزائدة الدودية في الليلة الماضية وقد ادخل الى مستشفى عبدالمجيد حسين الواقعة في الكرادة فما كان من اقاربي وبعض الموظفين الذين تربطهم علاقة حميمة بالمستر كاتنر إلا والذهاب الى المستشفى المذكورة وعند وصولهم والاستفسار عن المستر كاتنر قيل لهم انه موجود في الطابق الثاني حيث يرقد هناك فأخذت خطوات اقاربي تشتد قبل الجميع للوصول الى غرفة المستر كاتنر وعند طرقه للباب فتحت زوجته الايطالية وفرحت فرحا شديدا بقدوم اصدقاء زوجها العراقيين وقالت الى اقاربي ان صاحبك راقد الان وهو مغمى عليه من شدة مفعول المخدر فتقدم اقاربي وقام بمناداة المستر كاتنر لكنه لم يجيبه لشدة التخدير فما كان من اقاربي الا ان ناده بصوت عالي .. كاتنر .. كاتنر .. ففتح كاتنر نصف عينه وحاول الابتسامة لكنه رجع الى نومه , فما كان من اقاربي إلا وصفعه صفعة قوية على خده الايسر وقال له قم وانهض فكانت هذه الصفعة تنبيها لأعصاب هذا المريض مما جعله يستيقظ جالسا على ألسرير وبعد خمسة دقائق عادة اليه ذاكرته وقال بالحرف الواحد ثلاثة مرات ..ان شاء الله .. ان شاء الله .. ان شاء الله . وبعد فترة لا تتجاوز اسبوعين قال كاتنر الى اقاربي بان هذه الزيارة وتعاطف الموظفين العراقيين معي قد اشعرتموني بعطفكم الشديد وحبكم الذي فاق حب اهلي و اقربائي وزوجتي وأولادي ..وهذا يدل على رفعة و سمو اخلاق العراقيين وطباعهم الحسنة . وان هذه الصفات الحسنة للعراقيين جعلتني احب العراق اكثر من بلدي المانيا . وبعد سنوات التقى المستر كاتنر بأقاربي في احدى المناسبات الوطنية الالمانية المقامة في شركة لوفتهانزا ببغداد حيث كان اقاربي مدعوا هناك حيث قال له كاتنر بأنه يود البوح بسر كبير وعظيم وحان الوقت لذلك فقال اقاربي بكل احترام تفضل يا صديقي .. فقال المستر كاتنر بالحرف الواحد ..عند سفري وحضوري الى المؤتمرات العالمية لشركات الطيران التي تقام في مختلف دول العالم فاني اضع امامي على المنصة علم جمهورية العراق وبجانبه علم جمهورية المانيا اكراما وإجلالا واحتراما وعشقا للعراق والعراقيين حتى يبدأ الجميع بسؤالي ... هل انت عراقي ام الماني ؟ فأقول لهم انا عراقي ولكن من اب و ام المانيين فيذهل من يسألني .. وهذا ابسط شيء اقدمه انا وزملائي الالمان لهذا البلد الرائع والجميل لان من يشرب من ماءه ينسحر به . |