ماذا يجري في البلاد... نقطة ضوء في التداعيات

تقف البلاد اليوم بمواجهة تحديات جسيمة وخطيرة تحتاج معها المزيد من الحكمة والصبر والبصيرة لتخطي عواقبها الظاهرة والكامنة التي باتت تطفو على السطح لتضفى على المشهد المزيد من التوترات والقلق المشوب بالحذر.
أستفحال التناقضات جراء إشتداد وتائر الازمة لم تأت من فراغ ، بل هي نتيجة لمجمل السياسات والممارسات الحكومية الخارجة عن ايقاع الضبط السياسي والاجتماعي والدستوري ، لنعيش هذه اللحظات المشوبة بالقلق والهواجس ، والحبلى باشكال المعاناة الانسانية والاقتصادية والمعيشية والامنية التي هي اساس ودعام أي مجتمع يتجه صوب المستقبل.
في ظروف دقيقة وحساسة كهذه ، تجد الاحداث نفسها منفتحة على احتمالات شتى ، والاحتمالات الاسوأ واردة بلاشك ، لأنها ضمن معطيات واقعها ، و إذا كان الامر كذلك ، فما هو الممكن ان تحققه لضبط الاوضاع ومنع ترديها نحو هذا الاسوأ ، الذي قد يكون مجمل ما نعيشه أمراً هيّنا أزاءه ، فمن المحتمل أن تنفلت الامور جراء الازمة المتفاقمة يوم بعد آخر نحو ميادين لا تخطر على البال ، بتفجير كل الالغام والكمائن المنصوبة منذ زمن.
نشير الى هذا الأحتمال الأسوأ من باب التحذير واليقظة والأنتباه ، ونحن واثقون من بقاء فرصة كبيرة أمام الشعب للحيلولة من دون الأنزلاق الى متاهة المزايدين والمنتفعين وألاعيبهم في التضليل وتشويه الحقائق .
وسط هذه الزوبعة المنذرة ، التي اشعلت البلاد وجعلت الناس يبقون على حذر وقلق دائمين لان المشكلات الاساسية لم تحل بعد ، بل ازدادت تفاقماً وتعقيدا ، يحاول المتصيدون في الماء العكر جر البلاد نحو كارثة اخرى ، عبر خلق مواجهات داخلية وتفجير الاوضاع ، وأشعال المواجهات بين قوات البيشمركة، والحشد في منطقة طوز خورماتو، وهي ليست المرة الاولى ، لأن محاوليها يريدون أصلا اشعال نيران الفتنة ، والمزيد من التوتر لوضع البلاد أمام متاهات مجهولة ، كي تضيع صور الفساد والهزائم وتحطيم البلاد ، التي ينتفض الناس اليوم في كل مكان وزاوية ، للتنديد بها ومحاسبة القائمين عليها، الذين لم يكتفوا بضياع الحاضر والمستقبل ، بل يريدون اليوم أشعال نار الفتنة لصرف انظار الناس عن ما جرى ويجري ، فالواقع اليائس المزري يجدّد نفسه كل يوم ليطالع وجوه الناس بملامحه الكالحة ، التي تطحنهم لتوقظ فيهم حميّة الثورة على الاوضاع المزرية التي طالت كل شيء..
من طبيعة المواجهات الداخلية ، أنها تبتلع اولاً مشعليها لتحرقهم بنارها ، أما الناجحون القليلون منها ، كما تحدثنا التجارب والوقائع فقد يعضون بنان الندم بعد مدة طويلة لكن بعد فوات الآوان ، فضلا عن أن محاولات اشعال الفتن
صارت لعبة قديمة يفهمها الناس ولم تعد تنطلي مراميها وتداعياتها التخريبية في زمن الكوارث .
كثيرا ما نوهنا عن أهمية الألتزام بالمسار الدستوري في الحفاظ على حقوق المكونات والجماعات وأفراد ، وبيّنا مخاطر الأنفراد بالسلطة ، لأنها بقدر ما هي مخالفة حقوقية ، فهي مخالفة لحقائق البلاد وطبيعتها ، وتدفع بأشكال الأزمات والصراعات والفوضى ، ها هو المحذور يقع ، أو يكاد ، ومع الاسف لم نكن نتمنى أن تسير الامور على هذا المنوال في الاتجاهات السلبية والمواقف وعدم الألتزام بالتعهدات التي لاحظناها طوال المرحلة المنصرمة ، وقد حاولنا مراراً وتكرارا ومن خلال الزيارات العديدة للمسؤولين الكورد على مختلف المستويات ، وطرح مبادرات عديدة عبر حوار جدي بهدف التوصل الى الحلول المرضية للجميع طبقا لدستور البلاد ، الذي من ثماره تعضيد الجبهة الداخلية وسد الثغرات التي يستفيد منها أولئك الذين لا يريدون الخير للبلاد والعباد ، فضلا عن تفويت الفرصة على اعداء البلاد من الارهابيين والقوى المتربصة بالبلاد شراً التي تلعب على وتر المشكلات والتناقضات لتحقيق غاياتها واهدافها المعلومة . وفي هذا المجال تتحمل القوى والاحزاب الوطنية الفاعلة ، لاسيما المشاركة في العملية السياسية مسؤولية التقاعس والاهمال ، جراء عدم الانتباه الى شارات الخطر الحمر، التي كانت تلمع في مختلف زوايا المجتمع ، فضلاً عن ما تتحمله القيادات الميدانية جراء تكرار
حوادث المواجهات غير المسوغة ، فلم يعد يكفي اليوم تبيان الحقائق ومن ثم الندب والبكاء على الاطلال ، لأن البنيان السياسي مايزال هشا وقد يتحول الى دوارس واطلال بعد حين.
من تناقضات المواقف والآراء أن بعضا ممن يريدون ركوب الموجة الجماهيرية المعارضة ، وهم من تسبب في الخراب ، يريدون اليوم جّر البلاد الى اضطرابات لتحقيق مآرب سياسية ، ليس لها في الواقع وجود سوى في الاخيلة المريضة .
من الاشكالات الصعبة أن تتزامن هذه الامور مع التحديات الجّمة التي تواجها البلاد ، التي تحتاج معها الى جهود المخلصين من ابنائها وحكمتهم من اجل درء مكامن الخطر، ولابد من الاشارة الى الجهود الخيرة الواعية التي أزالت المزيد من الاحتقان والمواجهة في ما حدث في طوزخورماتو ، وهي تدل على تواجد الوعي الوطني المنظور وتحسس الاوضاع القائمة وخطورتها وهي الاساس لضبط الايقاع الوطني .
أن قوات البيشمركة هي درع وطني رصين ، تولت حماية الشعب الكوردستاني وكل القوى المناضلة المحبة للحرية والعدالة من مختلف فئات وشرائح الشعب العراقي في نضالها ضد طغيان الحكومات المتعاقبة ، وأسهمت في اسقاط النظام البائد ، وقدمت على مجرى ذلك كله الكثير من التضحيات والدماء ، وعلى اساس هذه القوة الوطنية المقتدرة ، تأسس الجيش
العراقي الجديد بأفواج من البيشمركة في بداية تشكيله ، وبرغم التضحيات الجّسام التي قدمتها قوات البيشمركه ، فأن التنكر لحقوقها ظل حاضرا في العراق الجديد حتى اللحظة .
بعد تعّرض البلاد للارهاب الداعشي ، الذي أجتاحه وأحتلال أجزاء واسعة منه ،تصّدت البيشمركه للمّد الارهابي ، وكسرت شوكته بما اعطى وقعاً معنوياً كبيراً ، وحطم أنتصاراتها المتلاحقة الأساطير التي حبكتها الماكنة الدعائية للأرهاب بكل سمومها وهي تنافي لروح العقل والعصر والحضارة والانسانية ، ولولا بسالة قوات البيشمركة ، لكان أحتلال مدينة كركوك أمرا محتوماً ، بعد أنسحاب كل الفرق والتشكيلات العسكرية الحكومية، لقد حمت قوات البيشمركة كل مدن محافظة كركوك من الأرهاب الداعشي ، وكان دفاعها المبدئي دفاعا عن التعايش والمحبة والتآخي التي ترفل كركوك بها على الدوام ، ما لم تمتد لها يد الفتنة .
أدت انتصارات البيشمركة وصمودها الى تعزيز الاوضاع الداخلية وتهيئة الفرص لانتزاع المبادرة ، فضلا عن الحاق خسائر كبيرة في القوة العسكرية لقوى الارهاب الداعشي ، وهو ما يعزز بطبيعة الحال معظم الاوضاع العسكرية لاشكال المجابه معه من عديد قوات المنظومة العراقية ومعها الحشد الشعبي.
أثبت الواقع أن دحر الأرهاب ، يتطلب التنسيق مع قوات البيشمركة في مختلف أساليب المواجهة ، وتعزيز أمكاناتها المادية والعسكرية من خلال تنفيذ الألتزامات الحقوقية المرتبة على الحكومة الاتحادية إزاءها ، كما إنه الطريق الصحيح لألحاق الهزيمة المنكرة بفلول داعش الارهابي .
الممكن والايجابي منوط فقط بالشعب العراقي ، الذي من مصلحته ان لا يدع الامور تنفلت اكثر مما هي عليه الآن ، وأن تتسارع القوى السياسية والاحزاب وممثلو مختلف القطاعات و الشرائح المتعددة الى محاولة الحوار الجدي لبحث اسباب هذا الانهيار الخطر وآثاره السياسية والامنية وعلى الصعد الاخرى.
إذا لم نساعد انفسنا ، وإذا ما فاتتنا الفرص وأحكمتنا التأجيلات المستمرة للقضايا الملحة آزاء المستحقات الوطنية ، فليس من المعلوم كيف ومتى ستعاد الامور الى طبيعتها.