مشروع التفكيك الجديد

 

هل يعتبر مشروع داعش جديداً بخصوص تفكيك دول المنطقة أم إنه إحدى حلقات التفكيك الجديدة لمشروع قديم، ابتدأ منذ نحو قرن من الزمان، فخلال الحرب العالمية الثانية اتفقت بريطانيا وفرنسا على تقسيم المشرق العربي إلى دول وكيانات، وأبرمت في العام 2016 اتفاقية عُرفت باسم اتفاقية سايكس بيكو ، لكن ثورة اكتوبر الروسية العام 1917 كشفت هذه الاتفاقية السرّية والدبلوماسية التي تقف خلفها، والتي تسعى إلى فرض الهيمنة على المنطقة، محرجة كل من بريطانيا وفرنسا، وهو ما ظهر في مراسلات الشريف حسين – مكماهون.والسؤال هل استنفذ مشروع التفكيك القديم أغراضه؟ أم إن ثمة تغييرات وتطورات جديدة، تستوجب استكمال المشروع القديم أو الاستعاضة عنه بمشروع جديد يحقق ذات الأهداف الاستراتيجية؟ جدير بالذكر إن مشروع التفكيك الجديد يأتي مترافقاً مع الموجة الجديدة من الارهاب الدولي والتطرّف والتعصب التي ضربت المنطقة، والتي ساهمت في زيادة تخلّفها وعزلتها، ناهيك عن ارتفاع منسوب العنف، تحت عناوين الدين والطائفية والإثنية وغيرها.لقد اقتضت المرحلة الثانية ما بعد اتفاقية سايكس بيكو إخراج مشروع ” إسرائيل” إلى حيّز النور، بعد أن كان بالأدراج والمؤتمرات والكتب، وفي أحسن الأحوال عبر وعد منحه من لا يملك لمن لا يستحق حسب تعبير جمال عبد الناصر، والمقصود بذلك وعد بلفور وزير خارجية بريطانيا، الذي أعطى بموجبه لليهود حق إقامة دولة لهم في فلسطين العام 1917.وقد عملت الصهيونية قبل ذلك وبالترافق معه على احتلال العمل واحتلال السوق واحتلال الأرض لاحقاً، تمهيداً لقضمها بالتدرّج والتوسع منها لاحتلال كامل فلسطين وأجزاء من الأراضي العربية في عدوان شامل ومستمر واجتياحات وغزو.وهو ما تم وضع خطته من جانب الصهيونية العالمية منذ مؤتمر بازل العام 1897 وجاء تتويجاً لكتاب “دولة اليهود” للأب الروحي للصهيونية ثيودور هييرتزل العام 1896.وحصل الأمر بالفعل فقد أنشئت دولة  “إسرائيل” بقرار من الأمم المتحدة وبإخراج دولي ساهم فيه الغرب والشرق، بصدور ما سمي بقرار التقسيم رقم 181 العام 1947 وتأسست في 15 مايو (ايار) العام 1948. وتوسّعت ” إسرائيل” على حساب العرب في إطار عدوان وقضم مستمرين ومشاريع حرب جاهزة، ابتداء من العدوان الثلاثي الانكلو- فرنسي ” الإسرائيلي” على مصر العام 1956 وعدوان 5 يونيو (حزيران) العام 1967 وحرب العام 1973 وإن ألحقت هزيمة عسكرية لأول مرة بالجيش “الإسرائيلي”، و”باسرائيل” وحلفائها اقتصادياً باستخدام سلاح النفط، لكن نتائجها السياسية لم تكن تتوافق مع الانتصار العسكري، وغزو جنوب لبنان العام 1978 واجتياحه واحتلال العاصمة بيروت العام 1982 ثم عدوان العام 2006 ضد لبنان، والعدوان المتكرر على غزة المحاصرة منذ العام 2007.وكان برنارد لويس الباحث والمستشار الأمريكي الجنسية، البريطاني الأصل، والصهيوني التوجّه، والذي عمل مستشاراً لوزير الدفاع الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، قد بلور نظرية أخضعت للدراسة والمناقشة، بهدف بلورتها في إطار ما يُعرف “ترست الأدمغة” في عهد الرئيس جيمي كارتر 1977-1981 وهو المجمّع الفكري- الأكاديمي الإعلامي للعقول، الذي يقدّم خدماته للمجمّع الصناعي – الحربي وللرؤساء تحديداً، والذي ارتفعت مكانته منذ عهد الرئيس جون كينيدي الذي اغتيل في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1963.وجوهر نظرية لويس يتعلق بتفكيك دول المنطقة، وذلك من خلال دفع شعوبها ودولها للاقتتال والاحتراب، ثم تأتي الخطوة اللاحقة لحصد النتائج ورسم الخرائط، من خلال تشطيرها إلى دول ومجاميع وكانتونات ودوقيات عرقية ودينية ومذهبية وطائفية، وتحديد حدود كل مجموعة إثنية أو دينية أو مذهبية، ليتم التفكيك أولاً، وليصار إلى تقسيم المقسّم وهكذا. ولا شك إن هناك عوامل داخلية تُمكن القوى الخارجية الاستناد عليها  لتنفيذ استراتيجياتها، ونقصد به شحّ الحريات وعدم إقرار التعددية والتنوّع والاعتراف بحقوق المجموعات الثقافية وعدم المساواة، ناهيك عن الفقر والأمية والتخلّف.

وقد ادى بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر، والذي كان له دور كبير في تغذية عوامل الفرقة والأحقاد والاختلافات والصراعات، بين العراق وإيران، لاسيّما بعد الثورة الإيرانية، وهو ما انساق إليه الطرفان، بتغليب ما هو ثانوي على ما هو أساسي، وما هو ستراتيجي على ما هو تكتيكي، وما هو طارئ وظرفي، على ما هو دائم ومستمر.

وكان الهدف من تأجيج نار الصراع العراقي- الإيراني، هو التمكن من إضعاف دول المنطقة والتمهيد لتفكيكها ، بحيث تكون خرائطها الجديدة منسجمة مع أهداف واشنطن وتل أبيب وتطلعاتهما، ولاسيّما بالاستحواذ على منابع النفط وحماية ما يسمّى أمن ” إسرائيل” وإضعاف دور الاتحاد السوفييتي من خلال مناطق النفوذ والمواقع الاستراتيجية التي يمكن الحصول عليها في دول المنطقة، ولاسيّما القواعد العسكرية والاتفاقيات الأمنية، وهو ما حصل حقاً خلال الثمانينات.جدير بالذكر إن الكونغرس الأمريكي وافق على المشروع التفكيكي الذي وضعه برنارد لويس، وذلك في جلسة سرية العام 1983 وتم اعتماده كخلفية مرجعية للاستراتيجية الأمريكية، التي قطعت شوطاً بعيداً فيها، منذ انتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل إلى شكل آخر، خصوصاً باعتبار الاسلام عدواً بعد انهيار الشيوعية.إن هدف برنارد لويس هو إخضاع العالم العربي بعد تفكيكه والضغط على شعوبه للتخلص من عقائده الإسلامية “الفاسدة”، وهو الذي أسماه فوكوياما “نهاية التاريخ”، مثلما أطلق عليها هنتنغتون “صراع الحضارات”، لأن هناك مخاطر حسب وجهات النظر هذه على الحضارة والمدنية الغربية ، المسيحية اليهودية، ولوضع العرب تحت السيطرة لابدّ من استثمار تناقضاتهم وعصبياتهم وطوائفهم .وتساوقاً مع هذا المشروع فإن ما قام به جورج دبليو بوش العام 2003  من تدمير العراق، هو جزء من هذا المشروع الذي حمل لاحقاً اسم “الشرق الأوسط الجديد” وهو ما كان قد دعا إليه شمعون بيريز في كتابه الشرق الأوسط الجديد الذي أصدره بعد اتفاقيات أوسلو العام 1993 وكان رئيس وزراء “اسرائيل” الأول بعد تأسيسها ديفيد بن غوريون هو أول من دعا إلى تجزئة المجزّأ من بلدان المشرق العربي لتأمين وجود واستمرار “اسرائيل”، وذلك منذ العام 1953.وكان شمعون بيريز قد كتب عن عظمة “إسرائيل” وأسواقها ونجاحاتها في بناء علاقات مع بعض الأنظمة العربية، وعبّر عن رغبته في رؤية شرق أوسط مفكّك على أسس طائفية وعرقية ومذهبية، حيث يحارب الجميع فيها بعضهم بعضاً، وحين ذاك سيتحقق أمن “إسرائيل” القومي.لا يحتاج المرء إلى كثير من التكهن ليعرف إنه سيتم القضاء على داعش إن آجلاً أو عاجلاً، لأنها ضد منطق الحياة وضد الطبيعة الإنسانية وضد التطور، ولكن ماذا بعد داعش؟ إنها الخشية الحقيقية إلى وصول مشاريع التفكيك إلى صيغتها التنفيذية، أي القبول بها بوصفها أسوأ الحلول الممكنة، بعد احترابات دموية وصراعات عنفية وحروب ونزاعات عسكرية إقصائية وإلغائية.