طبيعة الصراعات العراقية:
الصراعات الداخلية في العراق مختلفة، بعضها تأريخية وانتهت، وأخرى تاريخية ومستمرة ليومنا هذا كعدم استقرار العلاقة مع اقليم كردستان، ومنها ماهو حديث كافرازات تغيير النظام الصدامي والتدخل الاميركي بعد 2003، والحراك السياسي وصراع الكتل السياسية الممثلة للمكونات المستمرة التي لا تتناغم مع تطور العملية السياسية وتطلعات الشعب العراقي ومستقبله ورفاهيته.
تعد حالة الصراعات الداخلية في العراق من الصراعات المعقدة التي شهدت تطورات متعددة وكبيرة خلال العقد الاخير التي ادت الى استنزاف موارد البلد وعدم استقراره السياسي والامني وتعدت الى تهديد اللُحمة والنسيج الاجتماعي، ومما زاد الامر تعقيدا وسوءاً هو التدخل الخارجي في الصراع الداخلي العراقي الذي انعكس سلباً على مسيرة الحياة للمجتمع بشكل عام وعلى طبيعة علاقتنا مع كثير من الدول المحيطة والكبرى.
من المعروف ان المجتمع العراقي متنوع بطوائفه وقومياته واعراقه، وتطغي عليه النزعة القبلية والعشائرية التي تعززت إبان حكم نظام صدام من خلال اعتماده على هذه الصبغة اثناء الصراعات الداخلية والاقليمية. يعد ماحدث بعد التدخل الاميركي في العراق في 2003 من حل للجيش وقواه الامنية وعدم وجود ستراتيجية واضحة في ترسيخ الامن والاستقرار مواكبةً بخرق الحدود ووجود الفراغ الامني والسماح للقوى الخارجية بالتدخل المباشر في الشأن العراقي واستهداف المواطنين على اساس الهوية الطائفية والدينية والخلفية العرقية من قبل الارهابيين والجماعات المسلحة وتأسيس الحكومة على مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية والقومية، تعزيزا ًلظهور كتل سياسية قائمة على الاساس الديني والطائفي والقومي مما جعل الصراع الداخلي ذا طبيعة غير متجانسة تهدف الى شرخ المجتمع وتقسيمه على هذه الاسس واعادة رسم الخريطة الديموغرافية للبلاد. ان عدم وجود آليات وادارة واضحة للصراع قد ساعد في زيادة الصراعات الداخلية من حيث ارتفاع وتيرة العنف والارهاب والتهجير القسري والطوعي في مجتمعنا وأدت الى تفاقم مشكلة المهجرين والمهاجرين باختلاف اعراقهم داخل البلد وخارجه، وبالتالي ازدادت التحديات الداخلية واتسع نطاقها لتنعكس بدورها على العلاقات مع دول الجوار والمنطقة وحتى الدول الاوروبية نتيجة الهجرة الجماعية الانسانية لها.
اضافة الى ذلك تعقد المشهد العراقي الداخلي نتيجة تدني اسعار النفط والنقص الحاد في موارد الدولة نتيجة سوء التخطيط والادارة، كل ذلك يفتح المجال لتشعب الصراعات وتعمقها بدلاً من انحسارها ومعالجتها.
هنا نرى أن زيادة الصراع الداخلي اعطت فرصة غير مسبوقة للتنظيمات الارهابية يتقدمها كيان (داعش) المجرم والجماعات المسلحة الاخرى بالتغلغل داخل الاراضي العراقية من خلال سعيها الى تقويض واضعاف الدولة كمفهوم قائم، واستهداف تدمير وحدة النسيج الاجتماعي مع ملاحظة أن خطورة اهمال عملية مواجهة الصراعات الداخلية التي تعصف بالبلاد والحد منها تؤدي الى اطالة امد المعركة مع العدو وبالتالي زيادة الانفاق العسكري واستنزاف موارد البلد على حساب عملية التنمية الضرورية والملحة.
اسباب الصراعات:
احد اسباب استمرار الصراعات الداخلية في العراق هو نتيجة التحالفات بين الاطراف السياسية القائمة على الاستقطابات العرقية او القومية او المذهبية في عمومها وبالتالي نرى ضعف المحفز الوطني الشامل والجامع عند تطبيق البرامج السياسية لتلك التحالفات، حيث طغت الاولوية للهوية العرقية والقومية والمذهبية على حساب الهوية الوطنية والولاء للوطن. هنا نرى وقود زيادة الحراك الداخلي في العراق واعتماد الاحزاب السياسية العراقية على الانتماءات الثانوية لهدف كسب اصوات الشارع والتسويق لبرامجها واجنداتها المختلفة. هذه الاجواء ساعدت على تغيير النسيج الاجتماعي العراقي واعتُمدت لغة العنف كآلية اولية لحل الصراعات بعد 2003 بدلا من لغة الحوار والتواصل وترجمت بعمليات الارهاب والاغتيالات والتطهير العرقي والطائفي والتشجيع على الفساد المالي والاداري والامني، وتزامنت معها خطابات طائفية وعرقية مقيتة منطلقة من قواعد خارج العراق أسست لوجود حواضن لها داخل البلد.
كان لاستمرار التواجد الاميركي لفترة طويلة والانطلاق في ادارته للعراق من مدرسة تطبيق التجارب المختلفة لحين بروز حل مناسب، وتزايد دور المافيات المحلية الدولية في تاجيج الصراعات واستمرارها سبباً اخر ادى الى ارهاق الجسد العراقي المنهك اساساً من اتون حروب النظام الصدامي وثقافة العنف التي رسخها، ومازاد الامر سوءا هو اعتماد الطرف الامريكي، وقبول اغلب الاحزاب السياسية المشاركة بالحكم،على تشكيل الدولة الحديثة على المنطلقات العشائرية والطائفية والقومية والابتعاد عن ترسيخ الهوية الوطنية العراقية الموحدة.
ان العديد من الاطراف العراقية اصبح يلقي باللائمة على العوامل الخارجية لتعليل الفشل في ايجاد حلول للصراعات الداخلية، وهنا نرى طغيان مفردة المؤامرة الخارجية على العراق لاضفاء الشرعية على ضعف الاداء الاداري والسياسي والامني لحل القضايا.
لعل من اخطر نتائج ضعف ادارة الصراعات المعقدة الداخلية اوالخارجية على الاسس الحديثة هو ما نراه اليوم في منطقتنا من تآكل هيكلية الدولة وانهيارها (مؤسساتيا ًاو جغرافياً)، وتعد هذه احدى ابرز المشاكل في قضايا العلاقات الدولية في الشرق الاوسط، مع العلم ان منطلق استخدام القوة لحسم الصراعات بشكل عام ومنها العرقية دون النظر الى العمق التأريخي للمشكلة ومعرفة ماهيتها لن يساعد في علاجها وانما يجعلها منحسرة لفترة بانتظار الجو المحفز لتبرز من جديد.
اننا نعيش اليوم في العراق ازمة هوية ومنقسم ينحو لرؤانا للمستقبل لعدة اسباب منها ضعف الحوارات والتواصل الحقيقي واعتماد الهوية العرقية والطائفية والقومية بديلاً عن الهوية الوطنية، على الرغم من ان التعددية بالنسبة للامم المتقدمة هي نقطة قوة وزخم للمسيرة واثراء للمجتمع، لكن هذه المعادلة لن تتحقق مالم يتم التعامل من قبل الدولة مع مكونات المجتمع المتعدد على اساس المواطنة وتحقيق المساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص للجميع داخل البلد الواحد بعيداً عن العرق والمذهب.
اطار عام للمعالجات:
ان مواجهة المشاكل العراقية الامنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها من التحديات الخطيرة تتطلب منا البحث عن ستراتيجيات صحيحة ومدروسة لادارة الصراعات وكسبها او التقليل من تداعياتها، ولكي ننقل معالم الصراعات من اطفاء حرائق ومواجهة مستمرة للازمات الى المقدرة على التحكم بمفرداتها فاننا بحاجة الى مهارات اساسية ومهمة لادارة هذه الصراعات بشكل ايجابي فعال. هذه المهارات تتضمن القدرة على تقييم طبيعة الصراعات واسبابها واطرافها ونتائجها وغيرها من مستلزمات التشخيص التفصيلي لها.
من جانب اخر نرى أن الدول المستقرة سياسيا تستعمل التعددية السياسية والممارسات الديمقراطية المبنية على اسس وركائز صحيحة في الحكم كآلية لتقليل اسباب الصراعات وتحقيق الوئام الاجتماعي (علما ان الديمقراطية لا تعني تجاوز او طغيان الاكثرية على حساب الاقلية)، وبدون ادراك ذلك فإن مخاطر الصراعات ستستمر كجزء من يوميات العراق.
وهنا يقع على عاتق الدولة، والكيانات السياسية الداعمة لها، مسؤولية كبيرة في حل الصراعات كطرف جامع من خلال ترسيخ مفاهيم الوحدة الوطنية والعدل الاجتماعي وبناء اسس المجتمع المدني لإنهاء كافة اشكال الاستقطابات الداخلية كالحزبية منها والطائفية وتوحيد الرؤى لمكونات المجتمع نحو تحقيق الاهداف السامية للبلاد، آخذين بنظر الاعتبار تحصين العراق من تدخلات الاطراف الخارجبة المؤثرة في اذكاء الصراعات الداخلية وجعله ساحة لتصفيات حساباتها المنطلقة من مبادئ الطائفية والمذهبية والقومية.
اضافة الى ذلك يجب العمل على اعادة تأهيل الجيل الناشئ وبنائه على اسس يشارك فيه المجتمع ومؤسسات الدولة التعليمية والاعلامية والتربوية والانسانية، التي يجب ان تقاد من قبل علماء اجتماع ونفس وتخطيط وتعمل على وضع برامج حديثة ومناهج مدروسة ترتقي بالمستوى الفكري والثقافي للانسان باتجاه تعزيز مفاهيم المواطنة والتسامح والتعايش السلمي والوئام الاجتماعي واحترام حرية الفرد ومنع ترويج العنف والعنصرية وتثقيف مكونات المجتمع بثقافات وتأريخ ودور المكونات الاخرى سعيا ًنحوار إرساء دعائم الامن الوطني وبناء الدولةالمتقدمة. كل ذلك يتطلب العمل على ايجاد خارطة طريق لتحقيق المصالحة الوطنية الحقيقة بين اطراف الصراع التي لن تتم من دون التركيز على القادم والمستقبل بدل الخوض في الماضي مع التركيز على الاهداف المشتركة بدل نقاط الخلاف والقاء اللوم.
كذلك يجب محاربة الفساد بكافة انواعه وانهاء مبدأ المحاصصة واعتماد الكفاءات والمهنية واعادة النظر في الدستور وتقييمه بعد اكثر من عقد من الزمن من مصادقة المجتمع عليه، ومن العوامل المساعدة الاخرى في تقليل حدة الصراعات الداخلية العراقية ايضاً هو اعطاء المحافظات صلاحيات اكبر والعمل على نظام اللامركزية في الادارة مع تفعيل دور الاجهزة الرقابية.
ان ادارة الصراعات الداخلية العراقية عملية معقدة وعلى جميع الاطراف ان تعمل بشكل حثيث وجاد ضمن برنامج متفق عليه لانهاء الصراعات الداخلية وبناء اللحمة الوطنية ضد الارهاب والعدو المشترك مثل داعش. فبناء الامم يبتدئ عندما نرتقي الى مستوى التحديات التي تواجه بلدنا ونحسن التعامل في ادارة صراعاتها الداخلية والخارجية كمقدمة لبناء مستقبل مشرق وآمن.
م/ في الجزء الثالث من المقال سأتطرق الى كيفية تفعيل برامج متكاملة للتقليل من حدة الصراعات الداخلية وتبني مشروع وطني يدعم زيادة الوئام الداخلي بعيدا عن ثقافة الصراع.
|