ترتبط اشكالية الطبقة الوسطى وتطورها في العراق بتطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منذ منتصف القرن التاسع عشر وخاصة بإشكالية الدولة والسلطة والتطور الاقتصادي، حيث لم تتطور خلال فترة الحكم العثماني الاستبدادي سوى طبقة – طبقات جنينية في رحم المجتمع العراقي. غير ان بدايات تشكل الطبقة الوسطى كان مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة في مطلع القرن الماضي ثم نموها بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أسهمت الدولة في نموها عن طريق تطور رأس المال البشري ونظام الملكية والتعليم والمؤسسات الإدارية، حيث نمت رؤوس الأموال واستثماراتها وتمركزت في القطاع التجاري الذي كان سببا في نشأتها، وهو ما جعل قطاع الصناعة محدودا في بعض الصناعات الاستهلاكية الصغيرة وذلك لحاجة السوق المحلي لها. وقد لعبت الطبقة الوسطى النامية، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية دورا رياديا هاما في الحركات الاجتماعية والسياسية والثقافية واستطاعت توحيد صفوفها في جبهة وطنية عريضة قادت الى ثورة 14 تموز عام 1958. وبعد تزايد واردات النفط الهائلة وتوسع التعليم والمهن الحرة وتزايد أعداد المستخدمين في الوظائف الحكومية الذي ساعد على تطور التجارة والحرف والصناعات والورش الصغيرة في المدن العراقية +وخاصة بغداد اصبحت الطبقة الوسطى اللاعب الرئيسي في المجتمع العراقي في منتصف القرن الماضي، وذلك بفعل دخول التحديث وعناصر الحضارة والمدنية الغربية وازدهار السوق الاقتصادية والنزعة الاستهلاكية المتولدة عنها والتزايد المطرد لواردات النفط منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي. ولكن بالرغم من تطور الطبقة الوسطى ونموها في منتصف القرن الماضي فقد اخذت بالضعف والتفكك والضمور منذ بداية الثمانينات وخاصة بعد هيمنة حزب البعث على السلطة وعسكرة الدولة والمجتمع ودخول العراق الحرب العبيثة مع إيران وعلان الحصار الاقتصادي الجائر على العراق الذي كسر ظهر العراق واهان كرامته، أخذت الطبقة الوسطى بالضمور بحيث لم تعد تضطلع بدورها القيادي المعهود باعتبارها محور التطور الاجتماعي والطبقة النشطة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا والمحرك الاساسي لكل تغير وتغيير. ان التغيرات البنيوية التي طرأت على الاقتصاد العراقي نتيجة حرب الثماني سنوات مع إيران وحرب الخليج الثانية واحتلال الكويت وما افرزتها من عقوبات فرضتها الأسرة الدولية في مطلع التسعينات من القرن الماضي التي تمثلت في برنامج الامم المتحدة: النفط مقابل الغذاء وازدياد اعتماد العراق على عائدات النفط التي أصبحت المصدر الأوحد للعائدات الحكومية، باستثناء المساعدات الخارجية. وقد نتج عن ذلك نزوح ريفي الى المدن وتحول المجتمع المديني الى مجتمع يستهلك المنتجات المستوردة على حساب المنتوجات المحلية. كما سبب الحصار الاقتصادي الجائر على العراق تضخما نقديا كبيرا قوض القوة الشرائية للمواطن نتيجة انهيار قيمة الدينار العراقي حيث أصبح الدينار، الذي كان يعادل أكثر من ثلاثة دولارات في سبعينات القرن الماضي، يعادل أكثر من ألفي دينار، ولان معظم افراد الطبقة الوسطى كانوا يعتمدون في معاشهم على الرواتب الحكومية فلم تعد الرواتب تستطيع اللحاق بالتضخم الكبير، حيث أصبح راتب المعلم الشهري لا يتجاوز ثلاثة دولارات. ونتيجة للحصار الاقتصادي الجائر الذي فرض على العراق ، شاع الفقر والمجاعة والبؤس وارتفعت نسب البطالة والامراض والتخلف واليأس من المستقبل. وخلال سنوات الحصار العجاف كان ابناء الطبقة الوسطى قد باعوا معظم مقتنياتهم كالحلي والمجوهرات والتحف للتعويض عن تدهور مدخولاتهم الشهرية. كما ان الوضع الاقتصادي المزرى اجبر عددا متزايدا من العوائل على اخراج اولادهم من المدارس. فبحلول عام 2000 كان ربع طلاب المدارس تقريبا قد تركوا الدراسة لأسباب مالية بالدرجة الاولى، حيث كان على الاولاد الصغار البحث عن عمل لمساعدة عوائلهم الفقيرة. وقد زاد ذلك في ارتفاع نسبة الأمية التي وصلت الى نصف البالغين في العراق. وبسبب البؤس والفاقة والجوع اضطر النظام الى استخدام البطاقة التموينية كحل جزئي للأزمة. ومن الممكن تقدير الكارثة الاقتصادية التي حلت بالعراق بسبب الحروب والحصار بمعيار الناتج المحلي الاجمالي، وهو المؤشر الرئيسي لقياس النمو الاقتصادي، حيث تشير الاحصاءات الرسمية المنشورة بان معدل حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي قد انخفض من 3688 دولار عام 1980 الى 225 دولار عام 2002، وهو معدل أقل من الحد الادنى لمقياس خطر الفقر. (صبري زاير السعدي، الاقتصاد السياسي الجديد في العراق، بغداد 2008) وبحلول عام 2003 لم يعد القطاع الزراعي قادرا على توفير الغذاء المطلوب مما اضطر الناس الى التقشف في المعيشة والاعتماد على استيراد المواد الغذائية. كانت حصة الفرد العراقي من الناتج الوطني الاجمالي عام 1960 459,3 دينار ثم أخذت بالنمو التدريجي حتى وصلت قمتها عام 1980، حيث بلغت 1176,5 دينار عراقي. غير ان حصة الفرد من الناتج الوطني الاجمالي كانت قد انخفضت بعد حرب الخليج الأولى والحصار الاقتصادي الى 765,9 دينار عام 1990 ثم اصبحت عام 1995 148,1 دينار فقط . ان هذا التراجع والانكماش في دخل الفرد يعني تراجعا مريعا في النشاط الاقتصادي، الذي كان يقابله نمو مستمر في السكان من جهة، ونمو مستمر في اعداد الناشطين اقتصاديا من جهة اخرى، وهو ما ادى الى انتشار البطالة والتضخم المريع والغلاء الفاحش وتوسع الطبقة الفقيرة على حساب الطبقة المتوسطة وهبوط القوة الشرائية لمعظم سكان العراق. ونتيجة لذلك تلاشت مدخرات شرائح الطبقة الوسطى، واصبحت هناك طبقتان واحدة فقيرة واسعة تشكل معظم افراد الشعب العراقي واخرى صغيرة ولكنها فاحشة الثراء تكونت من المتسلطين الكبار والصغار على الحكم ومن حولهم من كبار تجار الحروب والمقاولين والتجار والصناعيين وغيرهم. )محمد علي زيني، الاقتصاد العراقي، لندن 2003(. وهناك أمثلة عديدة على انخفاض معدل دخل الفرد العراقي هو تدني الدخل الشهري للأستاذ الجامعي خلال التسعينات بين 4-10 دولار امريكي وتحول كثير من افراد الطبقة الوسطى الى بياعين خردة على ارصفة شوارع بغداد ومدن المحافظات الاخرى لتحقيق أدني مردود اقتصادي يوفر لقمة العيش والبقاء على الحياة. وهو ما دفع، مع عوامل سياسية اخرى، الى الهجرة الى خارج العراق، ومعظم هؤلاء ينتمون الى الطبقة الوسطى. كما عانت البلاد من هجرة العقول والمتخصصين والتكنوقراط بصورة واسعة النطاق، الأمر الذي ستترتب عليه اثار سلبية على مستقبل العراق. فقد غادر البلاد حوالي نصف مليون عراقي بين تاجر وطبيب ومهندس واستاذ الى الدول العربية والاوربية وغيرها. ان التجربة المريرة التي مر بها العراق بعد ضمور الطبقة الوسطى والردة الحضارية التي اعقبتها والتي اعادت العراق الى ما قبل تشكيل الدولة العراقية الحديثة، انما تشير في الحقيقة الى ضعف الطبقة الوسطى وعدم استقرارها والى الطبيعة المهزوزة والمتقلبة للاقتصاد الريعي، الذي لا يسمح باطراد نمو هذه الطبقات، بل يؤدي الى انهيار مراتب واسعة وانحدار فئات معتمدة على الرواتب انحدارا شديدا، التي تحمل تطلعات الطبقة الوسطى الحديثة (بفضل التربية والتعليم)، وتعجز عن تلبية تطلعاتها في سوق العمل المتقلب. كما ان بُنى فئات الطبقة الوسطى وشرائحها هي أكثر تعقيدا من ذلك، سواء من حيث المداخيل ونوعية التعليم والمنحدر الاثني او من حيث المحددات الثقافية للمكانة الاجتماعية والدينية او النسب النبيل وايديولوجيا القرابة والعشيرة (فالح عبد الجبار، نظرة في مصادر منهج حنا بطاطو، بغداد2001) التي تعود الى ما قبل تأسيس الدولة الحديثة، والتي ماتزال تلعب دورا هاما في ضعف الطبقات الاجتماعية في العراق. لقد كانت نتيجة السياسة المستبدة للنظام الشمولي السابق والحروب والحصار الاقتصادي على العراق وكذلك الغزو والاحتلال وما انتجه من فوضى "هدامة" التي اعقبت سقوط النظام السابق، هي ان العراق أصبح ناقص السيادة والصلاحيات ويتخبط في مستنقع المحاصصة الطائفية وما سببته من تخلف وبؤس وفساد وانقسام اجتماعي. وقد زاد في حدة هذه التناقضات تعمق الخلافات بين الهويات الفرعية وانحلال القيم والمعايير والسلوك وتغير ثوابت الشخصية العراقية الأصيلة التي كان يتمتع بها العراقيون خلال عقود طويلة، مثلما اختفت معالم النهضة الاجتماعية والثقافية والعلمية والفنية التي تطورت بعد الحرب العالمية الثانية على أيدي أبناء الطبقة الوسطى التي ارست معالم مجتمع عراقي كان في طريقه الى التقدم والازدهار. ان الطبقة الوسطى العراقية التي تطورت منذ الحرب العالمية الثانية واخذت بالضمور بعد حرب الخليج ، كان من المفروض لو قدر لها ان تبقى نشيطة ، ان تقوم بدور ريادي في قيادة سفينة العراق نحو الحرية والاستقلال الناجز والتقدم الاجتماعي، الا ان ضعفها وتفككها وضمورها ساعد على تحقيق اهداف قوات الاحتلال في اسقاط النظام السابق وتدمير بقايا مؤسسات الدولة وانتاج حالات من "الفوضى" كاستراتيجية تستخدمها الولايات المتحدة الاميركية لإعادة رسم خارطة الشرق الاوسط والانطلاق من العراق، بوابة الشرق الاوسط، لتنفيذ مخططاتها، التي كان من نتائجها ضعف الدولة والانفلات الأمني وتأجيج العنف والارهاب والمحاصصة الطائفية التي أدت الى القتل على الهوية والجريمة المنظمة والفساد والرشوة، وهو ما سبب تدميرا ذاتيا وتشويها للشخصية العراقية "وردة حضارية" ارجعت العراق الى مرحلة ما قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة . وبالرغم من ان الدولة الريعية ما زالت تتولى معظم الانفاق العام على البنى التحتية والاساسية، لأنها تعتمد كلياً على ريع النفط، غير ان القطاع الخاص بدأ يظهر ببطء مما يوفر دخولا جديدة محتملة من خلال دعمه لرجال الاعمال العراقيين في مشروعات صغيرة ومتوسطة وفي شتى المجالات، بما فيها قطاع السلع الاستهلاكية الصغيرة، اضافة الى استثمارات مختلفة للشركات المتعددة الجنسيات. كما ان زيادة رواتب موظفي الدولة وتزايد اعداد رجال الاعمال والتجار والمقاولين وعودة عدد قليل من المهاجرين، الذين يتطلعون الى أمن وسلام وحياة مستقرة. غير ان الانخفاض الكبير في اسعار النفط في الاسواق العالمية سبب أزمات مالية واقتصادية وسياسية وخيمة وخاصة في الدول الريعية التي تعتمد كليا في اقتصادها على النفط كالعراق، وعمل ويعمل ثانية على انكماش الطبقة الوسطى الضعيفة التي تشكل اليوم قرابة 60% من المجتمع العراقي وهي اليوم نموذج هش لدولة المحاصصة السياسية والانقسام الاثني والطائفي المتعايش على ريوع النفط، ومجتمع استهلاكي تابع لسوق العولمة خارجيا ومغترب داخليا ودولة ريعية ما زالت تستحوذ على نصف قوة العمل في العراق، التي تقدر بما يقارب أربعة ملايين موظف، يعملون على إعادة تركيب الطبقة الوسطى واستعادة انقسامها من خلال التوظيف الريعي. كل ذلك لابد وان يؤثر على استقرار الطبقة الوسطى حيث اصبحت منقسمة اثنيا ودينيا وطائفيا وذلك لأن الدولة الريعية والسوق التابعة لها "لا تستطيع ان تولّد نسيجا اجتماعيا متكاملا بسبب كونها سوق مستهلكة لا تولّد قوة فاعلة وانموذج ديناميكي موجب لإعادة بناء الطبقة الوسطى من جديد". (مظهر محمد صالح، الطبقة الوسطى في العراق، بغداد 2014).
ان نهوض الطبقة الوسطى من جديد مشروط في الحقيقة باستعادة الدولة لهيبتها وعودة الأمن والاستقرار الى البلاد وعودة التوازن الى أسواق النفط العالمية وضرورة تحول الدولة من دولة ريعية الى أخرى أكثر قدرة وكفاءة على تنوع انتاجها وعدم اعتمادها على النفط كمصدر وحيد في الانتاج. واخيرا أقول، مهما حدث للطبقة الوسطى من أزمات وضعف وضمور، فان المخزون الفكري والاجتماعي والاقتصادي لها يبقى غنيا وثريا لوعيها الطبقي العام الذي يرتبط بالمستوى التعليمي والعلمي والثقافي، وامتلاكها القدرة على بناء مشروع وطني متكامل ينتشل البلاد مما حل فيه من دمار ويعيد انتاج البنى التحتية التي تهدمت والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشوهت خلال العقود الأخيرة ودعم مسيرة التحديث والتقدم الاجتماعي.
|