على هامش خطبة "القاصعة"!!

 

هذه الخطبة ربما تحتاج إلى أكثر من مقالة ودراسة , وغايتي أن أشير إليها وأدعو إلى تأملها وفهمها واستخلاص الأفكار والحلول منها , لأنها تنطبق على ما يدور في واقعنا المُقاسي, وسأكتب باختصار عن العصبية التي توضحها بعمق وقوة كلماتها البليغة.

يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع) في خطبته:

"فلقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشيئ من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء , أو حجة تليط (تلصق) بعقول السفهاء غيركم , فأنكم تتعصبون لأمر  لا يُعرف له سبب ولا علة , أما إبليس فتعصب على آدم لأصله. وطعن عليه في خلقته فقال: أنا ناري وأنت طيني."

فإنكم تتعصبون لا عن حجة يقبلها السفيه ولا عن علة تحتمل التمويه.

وفي هذا مقارنة بديعة ما بين أسباب التعصب وبهتان التعصب.

فحتى إبليس الذي قرر أن لا يتعصب للإنسان بل عليه , كان عنده عذر لأنه من نار وآدم من طين. أما التعصب البشري في فروع  الأديان فأنه دائما  لا يستند على سبب واضح وعذر قاطع , وإنما هو نزعة النفس الأمارة بالسوء واندفاعها في دروب الويلات.

فالتعصب المنفعل المشحون بالمشاعر السلبية , وفقا للرؤية الصحيحة , لا يكون مفيدا ونافعا للناس.

والتعصب - إذا كان لابد منه - يكون عقليا ونابعا من الإيمان الفياض , الذي يجمع المُثل والمعاني الإنسانية النبيلة , التي تشرّف الأنبياء والرسل بحملها , ودعت إليها الكتب المنزلة عليهم من خالق الأكوان.

إنه تعصبٌ للمطلق , وليس تعصبا للمغلق.

وهكذا يرى الإمام علي (ع)  إذا كان لا بد من التعصب في الدين , فأنه يجب أن يكون تعصبا في الموضوعات الإنسانية اللامحدودة التالية:

أولا: مكارم الخصال

الإنسان لكي يكون معبرا عن دينه , عليه أن يرتقي إلى مكارم الخصال ( الصفات العالية الراقية النبيلة) في سلوكه اليومي ما خفي منه وما ظهر , وأن يكون قدوة في ما يبدر منه بين الناس. ومعنى القدوة هنا , أن يحاول جاهدا لكي يكون تعبيره متفقا مع ما هو مفيد ونافع للآخرين ومرضيا لربه وقيم ومعاني دينه.

ثانيا: محامد الأفعال

هيا تعصبوا للأفعال الحميدة الطيبة الطاهرة , التي تمدحكم عليها الناس وتذكركم بها , ولا تسبكم وتحسبكم من أهل السوء والبغضاء والكراهية والشحناء. نعم لنتعصب جميعا للأفعال المحمودة ذات الآثار الإيجابية التي يحبها الله لعباده في الأرض.

ثالثا: محاسن الأمور

(الأخلاق الرغيبة , الأحلام ( العقول) العظيمة, والآثار المحمودة)

الأمور الحَسنة هي التي تحقق السعادة الاجتماعية , وترفع الناس من آفات اليأس والحرمان. ومحاسن الأمور كثيرة ومتنوعة , ولو إختارها الإنسان وتعامل بها , وتخيرها لأخيه الإنسان , لعم الصفاء وسادت المحبة , وعبّر الدين عن رسالته السمحاء النافعة للناس.

رابعا: خِلال الحمد من الحفظ للجوار

الإجارة , أن يجير الإنسان أخيه الإنسان لحمايته من المكاره التي قد يتعرض لها , كالمظالم وغيرها من الأضرار النفسية والبدنية والمادية .

والإجارة شيمة عربية وإسلامية ذات قيمة وتأثير إنساني صالح للناس.

وتأكيد على خصال الأمان والرحمة والحكمة والحلم ورجاحة التقدير والتدبير الإجتماعي.

وهذه  دعوة لإجارة المظلوم , لأن ديننا دين عدل وإنصاف , فهو ضد الظلم ويحاربه بكل قوة , لأن الظلم لا يحبه الله , وما لا يحبه الله لا يحبه المسلم.

خامسا: الوفاء بالذمام (العهود)

الوفاء صفة إسلامية راقية تحدث بها القرآن الكريم , والرسول (ص) وجميع الأئمة والصحابة والتابعين. وكأن الوفاء ركن أساسي من السلوك الإسلامي والتفاعل البشري ما بين الناس , لأن في ذلك السلوك الصادق وفاءا ومحبة لله.

وخيانة العهود من أكبر الأسباب التي تدفع إلى التفاعلات السلبية ما بين البشر أفرادا وجماعات.

سادسا: الطاعة للبِر

البِر معناه الطاعة, الصدق, الصلاح, اللطف والشفقة والعطية.

ومعنى ذلك أن ننهج منهج الصلاح والصدق الذي يحقق الأماني البشرية , التي يريدها الله لخلقه ويريدها الإسلام لأهله. فما أروع أن يتحقق الصلاح وتدوم الشفقة بين الناس , ويكون التعامل بينهم باللطف واللين والصدق.

سابعا: المعصية للكبْر

معنى الكَبْر هو التجبر والإثم الكبير.

وفي هذا إشارة إلى سوء ذلك وأثره على الحياة , والمسلم مدعو لمعصية الآثام الكبير والتجبر والتكبر والظلم , وما يلحق بالناس من الأذى والآلام بسبب هذه السلوكيات , التي لا يقر بها الدين الإسلامي ويسعى إلى محاربتها , وتخليص الناس من المظالم التي تلحق بهم بسببها.

ثامنا: الأخذ بالفضل

الفضل ما يجعل الشخص خليقا بالتقدير.

أن يكون المرء صاحب فضل على الآخرين إنما هي نعمة يحمد المرء ربه عليها.

وللفضل بين الناس دور مهم وحيوي في إشاعة المحبة وتأمين الحياة الطيبة , ذات المعاني السامية التي يريدها الله. وما أحسن أن يسعى المسلم من أجل أن يجود على أخيه المسلم , لكي يمنحه لمسة من السعادة يفرح بها ويهنأ , وفي ذلك تعبير فعال عن محبة الله.

تاسعا: الكف عن البغي

البغي يعني الظلم "البغي مرتعه وخيم".

المسلم الذي يعرف دينه ويحب ربه ,هو الذي لا يظلم , بل يساهم في كف المظالم والأذى عن الناس, لأن الظلم من الخصال التي لا يحبها الله.

عاشرا: الإعظام للقتل

القتل حرام والقتل ظلم والقتل خطيئة.

وقد حث الله تعالى على تحريمه وتعظيم المخلوق البشري وحرمته ومقامه عنده, فهو الذي خلقه في أحسن تقويم , ويرجو منه أن يصنع مجتمعا طيبا رحيما يزيده مقربة ومحبة إلى خالقه. فالمسلم هو الذي ينظر إلى القتل على أنه من الكبائر , وأن لا يسعى إليه لأنه سيغضب ربه ويؤذي دينه ورسالة الحق المبين في الأرض.

القتل فعل شر والله لا يحب الأشرار.

حادي عشر: الإنصاف للخَلق

الإنصاف هو العدل.

وما أحب العدل وأجله من سلوك ونظام حياة , يساهم في الأمن والسعادة , والمجتمع المتفاعل بإيجابية نحو الخير والرفاه والطمأنينة والأمل.

"وأقسطوا إن الله يحب المقسطين"

ثاني عشر: الكظم للغيظ

"والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس"

الكظم بمعنى الحبس أو المنع.

وكظم الغيظ (الغضب) صفة دعا إليها الإسلام , لما للغضب من آثار وخيمة على المجتمع والحياة بصورة عامة. فالفعل الناجم عن الغضب يكون إنفعاليا ويؤدي إلى نتائج سيئة , ويدفع بصاحبه إلى الندم , ولكن بعد أن تسبب بالأضرار التي لا يمكن إصلاحها بسهولة. ومن هنا فأن الروية والحلم , من الصفات الإسلامية التي تنفع المسلم وترفع شأن الدين, لأنها تعني العقل والتعقل والمقايسة والتمحيص للوصول إلى الخيار السلوكي السليم.

 

ثالث عشر: اجتثاث الفساد من الأرض

"إن الله لا يحب المفسدين"

الفساد كلمة شاملة , ومعناها كل ما هو ضد المصلحة العامة للناس.

أو هو أخذ مال الآخرين وإشاعة المظالم.

وخلاصة القول أن ما يضر المصلحة العامة للناس سلوك لا يقبله الدين , ولا يجوز للمسلم أن يقف إلى جانب الفساد , بل أن عليه أن يكون دائما من الرافضين له , والداعين إلى منعه لأنه يضر بالناس .

رابع عشر: واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المَثُلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال. فتذكروا في الخير والشر أحوالهم, واحذروا أن تكونوا أمثالهم.

وبعد أن تذكر الخطبة الكثير من الخصال والمعاني والأفكار , تؤكد على أهمية الإعتبار وقراءة التأريخ بعقول منفتحة واعية , ذات قدرة على أخذ الدروس والعبر الصحيحة والمفيدة للأجيال الحاضرة والقادمة.

وفيها دعوة للتذكر والحذر والمقايسة لكي لا يتكرر الخطأ ويتحقق الفساد.

خامس عشر: اجتثاث الفرقة ولزوم الألفة والتحاض على التواصي بها

"واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"

المسلم العارف بدينه ومفردات عبادته وكيف يسلك كمسلم ,عليه أن يكون مع وحدة المسلمين وألفتهم , وأن يحض على صفاء القلوب والمحبة والرحمة والتعاون على البر والتقوى ورفض الإثم والعدوان.

وأن يكون حذرا من الفرقة ومحاربا لها , لأنها تشق الصفوف وتؤذي كل مسلم , وتبني وجودا اجتماعيا قاسيا لا ينفع المسلمين , بل يستدعي المصائب والويلات إليهم.

سادس عشر: الحذر من تضاغن القلوب , وتشاحن الصدور , وتدابر النفوس وتخاذل الأيادي.

فاحذروا أربعة أشياء قاتلة للدين والمسلمين.

 

1-التضاغن

الإنطواء على الأحقاد. والضغينة هي الحقد.

أن ينطوي المسلم على الحقد والكراهية لأخيه المسلم ولأخيه الإنسان , فهذا ليس من طبع الدين ولا يعبر عن فحوى رسالته. وهذه الصفة لا تقرّب الناس إلى ربهم بقدر ما تبعدهم عنه وتستدعي غضبه عليهم , لأنها تحارب القيم السماوية النبيلة الطاهرة.

 

2-التشاحن 

من الشحناء وهي العداوة.

والعداوة صفة مبغوضة وغير محببة , ولا يريدها الإسلام أن تحل بين المسلمين و لأنها تعني دمار الدين وكسر أعمدته , التي يريدها أن تبقى قوية ومتماسكة , لكي تبقى خيمة الدين وارفة فوق رؤوس الجميع.

 

3-التدابر

ومعناها هنا التقاطع.

وهل من الإسلام أن يقاطع المسلم أخاه المسلم , ولا يتفاعل معه بما يرضي الله ويفيد الدين. والدين بكل تعاليمه يحث على محبة المسلم للمسلم , ومحبة المسلم لأخيه الإنسان , والتفاعل معه بإيجابية ومودة وصدق.

 

4- التخاذل

هو ترك العون والنصرة.

"أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" بمعنى أن تبصره إذا ظلم , وتمنعه من الظلم إذا استدعى الأمر لأن الظلم سلوك ضد الله. وأن تساعده على الخروج من الظلم الذي وقع عليه. فهل من الإسلام أن يرى المسلم الظالم والمظلوم , ولا يفعل شيئا ويبرر المظالم وفقا لهواه.

إن ترك العون والنصرة بين المسلمين ,  ستأخذهم إلى حيث لا يريدون , وستؤذيهم جميعا , وتحقق للشرور ميادين , وللظالمين عروشا , فيعم الفساد ويدوم البلاء.

 

ولنتأمل هذه الفقرة من الخطبة , وهو يذكّر ويقارن بأحوال الأمم التي كانت وإلى أي مقام آلت, ويدعونا إلى الإعتبار والتفقه والنظر.

 

" فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء (الجماعة والقوم) مجتمعة, والأهواء متفقة, والقلوب معتدلة, والأيدي مترادفة, والسيوف متناصرة, والبصائر نافذة, والعزائم واحدة.

ألم يكونوا أربابا (سادات) في أقطار الأرضين, وملوكا على رقاب العالمين.

فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة, وتشتت الألفة, واختلفت الكلمة والأفئدة, وتشعبوا مختلفين, وتفرقوا متحازبين قد خلع الله عنهم لباس كرامته, وسلبهم غضارة   ( سعتها) نعمته, وبقي قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين."

 

فأين نحن من القاصعة ؟
 ولماذا لا نخاطب الناس بهذه الخطبة المانعة الجامعة؟

 ولماذا نتحدث بما لا يرضي الله ويغضب الأنبياء والأولياء والصالحين؟!

 

اللهم بصّرنا بأمر ديننا ودنيانا ولا تجعلنا من الغافلين الجاهلين.

اللهم أهدنا المحبة الفياضة والرحمة والأخوة والرأفة ببعضنا , واجعل للخير مرتعا في قلوبنا وضمائرنا , لكي لا يصيبنا الذل ويهلكنا الضعف والإندحار , أنت القادر والنصير يا الله يا أرحم الراحمين.

 

*القاصعة خطبة للإمام علي عليه السلام. وهي من قصع فلان أي حقره. وفيها تحقير لحال المتكبرين والمتعصبين.