الزبائنية وما في حُكمها

 

بعد مخاضٍ عسير تمكّن البرلمان العراقي من عقد جلسة مشتركة، ثم عاد وانقسم على نفسه بين موالاة ومعارضة، وتمكّن برلمان الموالاة، الاجتماع بتوفّر النصاب (173 نائباً) في قاعة أخرى برئاسة سليم الجبوري، وباستضافة رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي قدّم أسماء وزارته الجديدة، والتي عُرفت سابقاً فيما سمّي بوزارة الظرف المغلق، وأثارت حينها عاصفة من الاحتجاجات داخل البرلمان وخارجه. وكان عدد من البرلمانيين قد اعتصموا، ثم قاموا بإقالة رئيس البرلمان، لكن تجمّعهم أخذ بالتصدّع بانسحاب عدد غير قليل منهم وانحيازه إلى الموالاة، ممّا مكّن مجموعة الموالاة من عقد جلسة نظامية بتوفر النصاب برئاسة الجبوري رئيسه المخلوع والمُعاد، معتبرين الإجراءات التي اتّخذت من قبل المعتصمين باطلة.إن هذا التطوّر الذي حصل في المشهد السياسي العراقي يعيد طرح السؤال الإشكالي: هل نحن أمام تغيير وإلى أي حدود ووفقاً لأي سياقات؟ وهل المقصود بالتغيير بعض الوزراء أم ثمة تغييرات شاملة كما يريدها الجمهور؟ علماً بأن محاربة الفساد ومساءلة المفسدين وتحسين أوضاع الناس وحياتهم المعيشية، وتوفير الخدمات الضرورية التي يحتاجون إليها كانت المطالب الأساسية للتغيير، إضافة إلى تجاوز نظام المحاصصة الطائفية ـ الإثنية.

في سبتمبر (أيلول) 2014 تشكّلت الوزارة الجديدة برئاسة حيدر العبادي خلفاً للمالكي في عملية شبه قيصرية، وأعلن العبادي الذي حظي بدعم دولي وإقليمي، إضافة إلى دعم القوى المشاركة في العملية السياسية، برنامجاً للإصلاح، لكن هذا البرنامج لم يتحقّق شيئاً منه على الرغم من الوعود والآجال الزمنية لتنفيذه، الأمر دفع بالشارع إلى الاحتجاج منذ يوليو (تموز) العام 2015? خصوصاً وقد شهدت البلاد أزمة مالية حادة بسبب انخفاض أسعار النفط، لدرجة أن الحكومة تلكأت في دفع رواتب الموظفين، ناهيك عن عجزها في تقديم الخدمات الأساسية، التي هي متدهورة أصلاً. لم يكن للعبادي الذي شعر بثقل تقييد الكتل السياسية له، إلاّ أن يطلق وعوداً جديدة، وذلك لكسب الشارع لصالحه بعد أن أخذت الكثير من الأصوات التشكيك في خطته الإصلاحية، وحدث ذلك بعد نحو عام من تربعه على سدّة الحكم (أغسطس/آب/ (2015 فإضافة إلى الأزمة السياسية العاصفة التي على الرغم من مرور 13 عاماً عليها، فإنها لم تجد أفقاً لحلّها، فإن استمرار تهديد داعش، خصوصاً بعد الذي حدث لسكان الموصل عند احتلالها في 10 يونيو (حزيران) 2014? وما عاناه المسيحيون وما تعرّض له الإيزيديون، عاظم من انعدام الثقة بإمكانية معالجة تدهور الأوضاع، وزاد ذلك معاناة النازحين من محافظات صلاح الدين والأنبار وديالى وغيرها التي أخذت تزداد حدّة مع مرور الأيام، ووصل عددهم نحو ثلاثة مليون نازح، وامتدّت الأزمة إلى الجانب الاقتصادي والمالي، بالتزامن مع حملة تقشف وإجراءات إدارية وضريبية تحت مبررات مختلفة.وإزاء ارتفاع موجة الاحتجاج الشعبية، إضافة إلى المطالبة بتجاوز نظام المحاصصة الطائفية والإثنية شعر رؤوساء الكتل بقلق شديد، ذلك أن أي تغيير سيطيح بامتيازاتهم، فقد كانوا طوال السنوات الماضية يغضّون النظر الواحد عن الآخر، في إطار شبكة المصالح والزبائنية والتخادم الوظيفي والسياسي والطائفي والإثني، بحيث اندحرت الدولة ومؤسساتها إلى الهاوية، وأصبحت شبه مشلولة وفاشلة، بمعناها السياسي بسبب التقاسم الوظيفي بين الكتل التي هي حاصل جمع المتناقضات أحياناً من جهة، وبمعناها الاقتصادي والإداري بالسكوت عن الفشل المركّب ونهب المال العام من جهة أخرى.والزبائنية تعني علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية غير متكافئة بين مجموعات من الفاعلين السياسيين، على أساس المحسوبية والمنسوبية، ويسمح للزبائن الاستفادة من الدعم المشترك لكون بعضهم يوازي البعض على أصعدة سياسية واجتماعية وإدارية، وعادة ما يتسّم مثل هذا النظام بالفساد والتخلّف ومخالفة قيم الشفافية والمساءلة. ويعود أصل نظام الزبائنية إلى روما القديمة، حيث كانت هناك علاقة خاصة بين “الراعي” وهو من لديه السلطة والمال، والزبون أو “العميل”، الأدنى الذي يستفيد من نفوذه وتأثيره وهو الأمر التي الذي ينطبق على الحالة العراقية.لم يكن التغيير الوزاري بعيداً عن الضغوط التي مارستها الكتل السياسية على العبادي، وهكذا عدنا إلى نظام الزبائنية مجدداً، بل إننا لم نغادره أصلاً، بحيث يتحكّم رؤساء الكتل بمن يتم اختياره من قبلهم باعتبارهم “تكنوقراط”، ولكن ولاءهم سيكون لمن يختارهم، وهكذا يستمر النظام الزبائني، على الرغم من الدعوات الشعاراتية التي أطلقها السيد الصدر بإلغاء نظام المحاصصة.إن وثيقة الإصلاح التي تم تقديمها يوم 11 أبريل (نيسان) 2016 أكّدت على استمرار نظام الزبائنية حين جاء فيها “تقدّم الكتل السياسية مرشحيها للتشكيلة الوزارية إلى رئيس مجلس الوزراء، ويكون له الحق باختيار الأسماء، بما يؤكد الشراكة الوطنية” وفي الواقع ليس ذلك سوى استمرار نظام المحاصصة تحت عناوين مراعاة التوازن في المكوّنات الذي هو في جوهره نظام للزبائنية، خارج نطاق الكفاءة والنزاهة والمهنية، بتقديم الولاء والانصياع للكتل والتبعية لرؤسائها. التشكيلة الحكومية الجديدة لم تشذ كثيراً عن نمط الحكومات المحاصصاتية ـ الزبائنية التي اعتمدت منذ الاحتلال في العام 2003 وحتى الآن، ولعلّ مثل هذه النتيجة قد ترضي الأطراف الإقليمية والدولية (طهران وواشنطن بشكل خاص) اللتان تعلنان تأييدهما للعبادي وأولوياتهما لمحاربة داعش. أما المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية فقد ظلّت عائمة ودون حسم مثل قانون المساءلة والعدالة (اجتثاث البعث سابقاً) والمادة 4 من قانون مكافحة الإرهاب، ومسألة المخبر السرّي ومستقبل الحشد الشعبي والحرس الوطني، إضافة إلى قانون مجلس الخدمة الاتحادي وقانون العفو العام وقانون النفط والغاز وقانون مجلس الاتحاد وقانون الأحزاب وغيرها.ولعلّ سؤالاً وجيهاً يواجه الباحث، لماذا لا تريد الكتل السياسية التغيير الحقيقي، على الرغم من دعاواها ضد الفساد والمفسدين، والجواب بسيط جداً ويستبطنه السؤال، وهو الإبقاء على نظام الزبائنية، وربط الوزراء بها وضمان ولاءهم لها، وبذلك سيكون هناك عقداً سرياً أو علنياً بينها وبينهم، الأمر الذي سيعني بقاءهم في إطار شبكة العلاقات والمصالح والتخادم، وهذا ما قاد إلى أن تصبح الدولة غنيمة يُراد تقاسمها وفقاً لنظام الزبائنية التي لفّت شبكتها القوى المتعارضة والمتوافقة في الآن ذاته، وكل يريد حصة أكبر من الدولة على حساب الآخر.