العراق بين الأمس واليوم

 

 قبل عقود من السنين وفي الفترة الذهبية لليسار العراقي ممثلا بالشيوعيين والبعيثين والقوميين في فترة الخمسينات والستينات قبل أن يدخل العراق في متاهة الانقلابات والأنظمة الشمولية بعد تموز 1958  كان اليسار العراقي هو من يقود الشارع وهو من يفرض شروطه وكلمته على الطبقة السياسية وهو من يلغي المعاهدات الجائرة ويسقط الحكومات الفاسدة كما حدث في معاهدة بورتسموث 1948 ورفض مشروع حلف بغداد ودعم مصر ضد العدوان الثلاثي في العام 1956  وإسقاطه لحكومات صالح جبر ونوري السعيد وعشرات الحكومات الفاسدة والعميلة المرتبطة بالسياسات الاستعمارية والانجلوأمريكية، ورغم ان الشارع العراقي انذاك كان مسيساً ومجيرا في أغلبه لتلك الأحزاب إلا إنه ظل يحتفظ بصوت المعارضة النقي الذي كان يضع مصلحة العراق فوق كل اعتبار.

ثم حدثت القطيعة والانقطاع وبدأ دور اليسار العراقي بالتواري والاختفاء شيئا فشيئا اثر انقلاب تموز 1968  وتسيّد حزب البعث لمنظومة الحكم وقيادته البلاد بما عرف بسياسة الحزب الواحد والقائد الواحد واصبحت التظاهرة الوحيدة المسموح لها هي التظاهرات التي يقودها الحزب بتوجيه من قيادته لأغراض سياسية ممنهجة وفي مناسبات معلومة كـ(عيد الثورة)و(عيد الحزب) و(عيد ميلاد القائد) واعلان التأييد والدعم للقائد ومسيرات الولاءات والبيعات الموسمية التي كانت تقام انذاك.

بعد 2003  انفتح الشارع العراقي على سعته وكان يمكن له ان يستوعب كل التيارات والتوجهات والاطياف العراقية التي وجدت فسحة كبيرة من الحرية للتعبير عن رأيها بلا خوف لكن الذي حدث هو بروز الاحزاب الدينية الى السطح كواجهة للطبقة السياسية التي تتحكم بمصير البلاد. وأصبحت هي من تقود الشارع العراقي وتتحكم ببوصلته، والمفارقة في الموضوع إن هذه الاحزاب وقياداتها هي بالأساس جزء لا يتجزأ من منظومة الحكم بل هي المتحكم بتوجهات الدولة ومؤسساتها وقادرة على تغيير الحكومات وتنصيب من تراه مناسبا لادارة الحكم كما حدث في تجارب سابقة.

والمتأمل لما كان يحدث بالامس وما يحدث اليوم يلاحظ وبكل سهولة التغييب القسري للوعي العراقي والذي جاء نتيجة لتراكمات عقود من الاستبداد والدكتاتورية ومسخ للروح الوطنية ابتدأت منذ العام 1963 وحتى نيسان 2003.

 إضافة الى التجهيل والتسطيح المتعمد للشخصية العراقية وروحها الوطنية من خلال تجاهل المطالب الحقيقية للمتظاهرين أو اولئك الساكتين المتفرجين الذين آثروا الصمت والانزواء بعيداً عما يجري أما خوفا أو يأساً. كذلك ظهور مصطلح الولاء المطلق للرموز والقيادات بأبشع صوره وكأنه استمرار لما كان عليه العراق قبل 2003.

بالأمس كان الشارع العراقي تحركه القيادات المدنية القريبة من نبض المواطن وحسه وما يريد تحقيقه من مطالب وطنية وقومية تمس مصالح البلاد العليا، أما اليوم فإن من يحرك الشارع العراقي هم قلة من الرموز الدينية والقيادات المنقطعة عن الواقع والبعيدة عن الجماهير استطاعت أن تفرض هيمنتها ورؤيتها لمشروعها السياسي والديني بعيدا عن الاستجابة الحقيقية لمتطالبات المواطن العراقي وهمومه اليومية.

ما يحدث اليوم هو صراع لفرض الارادات بين الاطراف المتجاذبة للمشروع العراقي الذي جرد من كل ملامحه الوطنية، كلاً يحاول فرض وجهة نظره على الاخر والاستحواذ على النصيب الأكبر من تقاسم غنائم السلطة وامتيازاتها . من خلال استخدام كل الأدوات والوسائل المتاحة مثل: الترهيب بكل أشكاله لأسكات الاصوات الاخرى، حتى تلك التي تلتقي معهم بنفس الاهداف.

إن اليسار العراقي أو ماتبقى منه والذي تحمل كل المخاضات وطوال عقود من السنين وساهم في بلورة حياة سياسية تؤمن بالثقافة التعددية وتتقبل وجهات النظر المتعددة وتجاوزت مرحلة الجمود العقائدي قبل وقوعها في فخ الدكتاتورية والتلسط الفردي والحزب الواحد، يمتلك اليوم القدرة على تخطي كل العقبات التي يضعها الاخرون في طريقه واستعادة دوره الحيوي والنضالي المشرف في قيادة الجماهير العراقية لتحقيق حلم مشروع الدولة العراقية الجديدة الناهضة الى بر الامان، بعيدا عن كل الاشكاليات والعصا الغليظة التي توضع في دولايب عجلة النهوض لو أراد، لكن عليه قبل ذلك أن يعمل بجد ونشاط وتحدِ على استعادة المبادرة من الاخرين، وأن يعيد ترميم الجبهة العريضة من الجماهير التي مازالت تبحث عمن يقودها من العناصر الوطنية النقية التي لم تلوثها ارهاصات وتجاذبات مابعد نيسان 2003 وما قبله من حقبة دكتاتورية بغيضة.

ولا ضير في أن تكون تلك العناصر محسوبة على هذه الجهة اليسارية أو تلك، فقط يجب أن تتوفر النوايا الصادقة والمخلصة والمتجردة من كل حسابات ذاتية وفئوية وطائفية وتكون مصلحة العراق هي هدفها الوحيد والنهائي.

اليوم اليسار العراقي مؤهل أكثر من أي وقت مضى للظهور من جديد واستثمار حالة الغليان والتخبط التي تمر بها الطبقة السياسية الحاكمة التي لم تعد تمتلك ماتقدمه للمواطن غير جرعات مهدئة من الوعود الزائفة التي كشفت كل خوائها وإفلاسها ولم يعد ما تراهن عليه غير التحشيد اليومي والمستمر للجماهير المغلوبة على أمرها.