فيلم "المستعمرة" الالماني : حين يتحالف رجل الدين مع العسكر ضد الحرية والديمقراطية !




في العديد من دول العالم حصل وان تحالفت المؤسسة الدينية مع العسكر ضد التحولات الديمقراطية، فكانت النتيجة كوارث انسانية ومجازر بشرية تترك اثرها طويلا في ذاكرة الزمن. هذا ما يخبرنا به التأريخ من احداث كارثية حصلت في العراق عام 1963، اندونسيا 1965 وفي شيلي 1973. فيلم "المستعمرة" Colonia الالماني من انتاج 2015، والناطق بالانكليزية والاسبانية. ببساطة يحكي عن هذا الامر. حين يلبس رجل دين خوذة العسكر، فيتحول الى جلاد يتحدث بأسم الرب. كاتب السيناريو هو الالماني"توستين وينزل" (مواليد 1964) وقصة الفيلم هو اول سيناريو يكتبه للسينما، ومبني على احداث واقعية، جرت في تشيلي خلال ايام الانقلاب الدموي في 1973، الذي نفذه الجنرال أوغستو بينوشيه (1915 ــ 2006) وبالتنسيق مع المخابرات المركزية الامريكية، ضد حكومة الوحدة الشعبية ورئيسها المنتخب سلفادور اليندي (1908 ــ 1973)، الذي يعتبر أول رئيس دولة في أمريكا اللاتينية ذي خلفية ماركسية انتخب بشكل ديموقراطي في 1970، والذي اتخذ سياسات لصالح الفقراء وبميول اشتراكية ضربت مصالح الولايات المتحدة الامريكية. ورغم ان الاجواء الثورية في امريكا اللاتينية جذبت الكثير من رجال الدين، الا ان فئات منهم،وكما يعرض الفيلم، كانوا الى جانب الانقلاب العسكري الدموي الذي نفذ مجازر بشعة ضد الموالين للرئيس الليندي، الذي رفض الاستسلام واستشهد مدافعا عن الديمقراطية وحقه الشرعي كرئيس للبلاد. وكان المجلس العسكري الذي تشكل بقيادة الجنرال بينوشيه مسؤولا عن مطاردة اليساريين في كل ارجاء البلاد، وعن استشهاد اكثر من ثلاثة الاف مناضل، كما عُذب وسُجن أكثر من سبعة وعشرين ألفاً، ونُفي الالاف، ومنهم الشاب الفنان الالماني "دانيال" المناصر للرئيس اليندي، والذي تدور عن اعتقاله احداث الفيلم .
مخرج الفيلم هو الالماني فلوريان غالنبيرجر(مواليد 1972)، الذي ترعرع في وسط فني وجرب التمثيل في السينما منذ كان طفلا في الخامسة من العمر، ودرس الفلسفة والسينما وعرف عنه باختيار موضوعات لافلامه تهتم بموضوعات أممية وانسانية، وعرف عنه بتصوير افلامه عادة خارج المانيا، فهذا الفيلم صوره الجزء الاكبر من احداثه في مدن ليكسمبورغ وبوينس يريس اضافة الى ميونيخ وبرلين الالمانيتين ، وحصدت افلامه العديد من الجوائز والترشيحات، ومن ابرزها جائزة الاوسكار الفخرية عام 2001 لافضل فيلم اجنبي قصير.
في هذا الفيلم ، لم يلجأ المخرج لتوظيف الفلاش باك او حيل تشويق، اعتمد التسلسل الزمني المتراتب العادي ، وقسم الاحداث الى يوميات ، معتمدا على براعة الممثلين ، وموسيقى فاخرة ، ولقطات متوسطة ومقربة وكثيرا ما لجأ الى الكاميرا المحمولة ، ليقدم حكاية حب ومقاومة ممتعة بطاقم أممي . يبدأ المخرج فيلمه "المستعمرة" ، بلقطات وثائقية عن الاحداث في شيلي، مصحوبة بتعليق يذكر ان شيلي في 1973 "اصبحت ميدانا للحرب الباردة فبينما الرئيس سلفادور اليندي ينال تأييدا من الاتحاد السوفياتي تطالبه امريكا بفض تحالفه مع الشيوعيين وطردهم من من مناصبهم". تعرض اللقطات الوثائقية مسيرات التأييد التي سيرتها نقابات العمال والطلبة تأييدا للرئيس اليندي، الذي يعرضه لنا الفيلم بلقطات وثائقية وهو يحي الجماهير المساندة له. ومن المانيا ، ومن اربعة شهور وصل الى شيلي الشاب ومصمم البوسترات دانيال، للمشاركة الفاعلة في تظاهرات التأييد، وتصل أيضا الى سانياغو حبيبته لينا، التي تعمل مضيفة على خطوط شركة الطيران الألمانية لوفتهانزا (Lufthansa)، ويلتقيان خلال احدى التظاهرات ودانيال يوزع مناشير التأييد ، ويقرران قضاء وقتا رومانسيا في شقته المكتظة ببوسترات الدعاية وبأدوات التصوير والصور ، ويحصل الانقلاب وهما في فراش الحب ، كأشعار وكأن الانقلاب ضد كل هذا.
مثل دور الشاب دانيال ببراعة كبيرة الممثل الالماني "دانيال برول" ،المولود في اسبانيا (عام 1978) لاب الماني يعمل مخرج تلفزيوني للافلام الوثائقية وام اسبانية تعمل معلمة، فنشأ وترعرع في عائلة متعددة اللغات، جعلته يتحدث ست لغات مختلفة بطلاقة، وبدأ مشواره الفني بشكل مبكر واشترك بالعديد من الافلام، وبرز اسمه في الفيلم الالماني "وداعا لينين" 2003 ،حيث نال جائزة الفيلم الاوربي والفيلم الالماني لافضل فيلم وممثل. وشارك في العديد من الافلام الامريكية التي ثبتت مواقعه بين صفوف الممثلين المتميزين، مثل "انذار بورن" 2007 رغم دوره القصير، "اندفاع" عام 2013، والمملكة الخامسة 2013 حيث لعب دور المتحدث السابق باسم موقع ويكيليكس دانيال دامشايت بيرغ . أما دور لينا فمثلته بتألق الممثلة الانكليزية إيما واتسون (مواليد 1990) التي اشتهرت بدور (هيرمايني جرينجر) في سلسة أفلام هاري بوتر .
حين يحدث الانقلاب يحاول دانيال وحبيبته لينا الهرب. ويعرض لنا الفيلم، صباح يوم الانقلاب، بمشاهد قدمت بروح وثاقية وصورت ببراعة بكاميرا محمولة ، مما اعطى للمشاهد الحيوية والصدقية. ونرى جنود الانقلاب يحتلون الشوارع ويستبيحون حرية الناس وحياتهم،حيث يطلقون الرصاص فورا على من يحاول الهرب. حين ترك دانيال الشقة اصطحب معه كاميرته، وبروح الفنان المتلزم، كان يصور ما يجري وهو يحاول الهرب من المكان، فانتبه له الجنود فتم اعتقاله وحبيبته لينا ويحطم الجنود ببساطيلهم كاميرته، في اشارة لنوع العلاقة التي بدأت بين العسكر والفن والحقيقة. ويتم نقل المعتقلين، ومن ضمنهم دانيال ولينا ، الى ملعب سانتياغو الرياضي الذي تحول الى معسكر للالاف من الناس، ويهدد الضابط بأن الجنود لديهم اوامر باطلاق النار على كل شخص يعترض او يتحرك او يتحدث . اللقطات الواسعة الذكية للكاميرا لعرض صورة الملعب الغاص بصفوف المعتقلين والجنود كان تعرض ببساطة حجم الكارثة التي سيواجهها الشعب الشيلي في ظل سلطة الانقلاب. وسرعان ما تصل طائرة هيليكوبر تحمل رجلا مقنعا بكيس، ونفهم انه احد الخونة، ويبدا بتشخيص بعض الاسماء، ومنهم دانيال ، والذي ولأنه الماني يتم نقله بسيارة اسعاف خاصة تغادر الملعب بأتجاه مجهول. وحين يطلق سراح لينا تقرر البحث عن دانيال، فتتصل برفاق دانيال في المنظمة الشبابية فيخبروها بانهم لا يستطيعون عمل شيء، سيختفون ويمارسون العمل السري لاجل انقاذ كل البلاد ، واذ تخبرهم عن نوع سيارة الاسعاف فيخبروها انها تعود لمعتقل في جنوب البلاد منقطع عن العالم، يسمونه "مستعمرة الكرامة ". تزور لينا مكتب منظمة العفو الدولي فتتفاجيء بان المسؤول يمتدح مؤسسة "مستعمرة الكرامة "ويعتبرها منظمة دينية خيرية ذات تاريخ عريق وينصحها بان تتواصل مع سفارة بلادها لاجل ما تريد، ثم يعطيها اشارات تفهم ان هناك تنصت على مكتبه ويودعها بصوت عال ويغلق الباب وكأنها غادرت، لكنه يستبيقها داخل المكتب ويرفع صوت الموسيقى ليهمس له بحقيقة معتقل المستعمرة . وكونها نوع من دار العبادة تتستر تحت اسم جمعية خيرية لكنها بالحقيقة معتقل رهيب يديره رجل ذو اصول المانية مطلق الصلاحيات اسمه بول شايفر او بايوس، وذو ماض نازي وصل الى تشيلي من بعد الحرب العالمية الثانية وهو يعمل بقوانين خاصة لا يعرف بها احد ولا تتوفر ادلة عن اعماله. واذ تطرح لينا فكرة زيارة المكان فيحذرها ممثل منظمة العفو الدولي بأن من المحتمل انك لن تخرجي من هناك ، لكنها تجيبه باصرار : " ولكن هذا يعني يمكن الدخول اليه". وخلال الفترة التي نرى فيها لينا تتنكر بثياب فتاة متدينة متواضعة واكسوارات دينية وترتب للانضمام للمستعمرة الدينية كمتطوعة لخدمة الرب، يعرض لنا الفيلم خضوع دانيال لتعذيب وحشي بالادوات الكهربائية ، مربوطا شبه عار الى سرير معدني ، وثمة من يراقب عملية التعذيب من نافذة خاصة مستورة، نفهم فيما بعد انه رجل الدين بول شايفر او بايوس، الذي لعب دوره الممثل السويدي ميشيل نيكفيست (مواليد 1960) والذي حاز ورشح للعديد من الجوائز في افلام سويدية واوربية، وفي الفيلم هنا ابرز كل الملامح الشيطانية لرجل مهوس جنسيا بالاطفال ويتستر باسم الرب وبلغة ناعمة لتحقيق ماربه الخاصة. يخبر بايوس ضابط التحقيق بان ما عجز عنه التعذيب في انتزاع المعلومات فأن اساليبه النفسية ستكسر مقاومة الافراد. تصل لينا وتلتحق بالمستعمرة ، وتتعرض للتحقيق من قبل بايوس الذي يستخدم معها لغة دينية واقوال المسيح وثم يطلب منها ان تزع ملابسها الخارجية ليرى كيف ان الشياطين لا تسكن جسدها بسبب استخدامها لحمالات صدر من اعمال الشيطان والمفروض ان تسخدم وشاحا متواضعا لربط نهديها . كان الحوار اشبه بالمنازلة يكشف روح الفسق في شخصية رجل الدين بايوس والاصرار عند لينا لانجاز مهمتها في البحث عن حبيبها ، وحين يسالها عن هدف التحاقها تقول له انها جاءت من اجله لانها تحتاجه فيسعده كلامها ويضمها بين ذراعيه وهي شبه عارية مرددا اقوالا دينية وهو يشعر بنعمة الرب تحل عليهما ! المخرج عمد في الحوارات لاستخدام اللقطات القريبة (كلوز) ليمنح ممثليه فرصة التحكم بتعابير الوجه لعكس مكنوناتهم الداخلية ، وبرعت الممثلة أيما واتسون في التعبير عن قدرتها في كظم غيظ وغضب لينا وهي ترى فسق رجل الدين الذي يتستر بأقوال الرب .
في المستعمرة يدعي دانيال التخلف العقلي، وتقرر الطبيبة ان قشرة المخ تاثرت بسبب التعذيب فيتقرر ارساله للعمل في ورشة الحدادة وليكن تحت المراقبة، وبرع الممثل الالماني "دانيال برول" في اقناع المشاهدين وليس سكان المستعمرة فقط في مشاهده كمتخلف عقلي ، يتأتأ في الكلام ويقوم بافعال وحركات صبيانية. من جانبها تواصل لينا الصمود والتأقلم مع ظروف حياة المستعمرة القاسية، التي تستغل اعضاءها والمحتجزين وتسخدمهم في مزارع الذرة والبطاطا كالعبيد، وتبدأ في التعرف على نظام العمل والمعيشة في داخل المستعمرة، اذ تعيش النساء والرجال بشكل منفصل بشكل يشبه حياة الثكنة العسكرية ، وأذ تعرف ان المرأة التي ترتكب خطأ يتم معاقبتها واهانتها امام صفوف الرجال، تقرر السباحة عارية في بحيرة المستعمرة لترسل للتعذيب والاهانة امام الرجال لتتمكن من التاكد من وجود دانيال، لكن حظها يجعل دانيال في نفس الليلة يرتب سرقة مفاتيح المخزن ليهرب وليجتاز سياج المستعمرة لكنه يتعرض للصعق الكهربائي من السياج المكهرب والمجهز بنقاط حراسة والكلاب فيغمى عليه ويعتبر عمله تصرفا من رجل احمق متخلف عقليا. واذ يزور الجنرال بينوشيه المستعمرة وينظم استقبال حاشد يسمح فيه بالاختلاط بين سكان المستعمرة تتوفر فرصة للينا لترى دانيال المخبول فتصدم ، ولكنها اذ تقترب منه ويتهامسا تدرك انه يدعي الخبل . هذه المشاهد قادتها موسيقى تصويرية مؤثرة حابسة انفاس المشاهد ومثيرة تعاطفه مع احاسيس لينا التي تكشفها لقطات كلوز بارعة .يتفقان على اللقاء ليلا في مخزن البطاطا، وهناك يكون لقاؤهما مؤثرا ، فدانيال كان يعتقد ان لينا معتقلة مثله، لكنه يعرف بانها التحقت طواعية لاجل البحث عنه . وتعرف لينا بان دانيال يخطط للهرب، وانه يعرف الكثير عن حياة المستعمرة لانهم يتحدثون امامه بكل شيء باعتباره مخبولا ، ويكتشفان في مخزن البطاطا ممرا سريا يقود الى نفق يقود الى انفاق مترابطة والى غرف التعذيب، فيعرفان ان تحت ارض المستعمرة يختفي معكسر تعذيب تجري فيه الاهوال بحق المعتقلين، فيسرق دانيال كاميرة صاحب الورشة ويلتقط العديد من الصور للمكان ولغرف التعذيب وادواتها . رجل الدين بايوس ايضا يُتاجر بالاسلحة الالمانية، وفي مشهد معبر عن وحشية الديكتاتورية وتواطيء رجل الدين، فحين اعجب المجرم الجنرال بينوشيه برشاش الماني طلب من بايوس ان يوفر له منها 500 قطعة، وان يجربها امامه ليتاكد من صلاحيتها ، فقال بايوس انه سيجربها له على كلب، فرد بينوشيه انهم لم يخططوا لشراها لاستخدامها مع الكلاب فيرد رجل الدين غامزا اياه بانه يمكن تدبير ذلك بمساعدة الرب وهو يوجه نظراته الى دانيال. واذ يدرك دانيال انه تم اختياره باعتباره متخلف عقليا لتجربة قذائف غاز السارين معه، فيقرر ولينا تنفيذ خطتهما للهرب ويصطحبان معهما احد الفتيات التي قدمت لهما المساعدة، ويتمكنان بذكاء دانيال من تخطي مشكلة الشك بهما وانكشاف خطتهما، ويسلكان الانفاق عبر ممر مائي ويتخطيان من خلاله السياج لكن الفتاة تموت في انفجار لغم عليها عند السياج. وينجح دانيال ولينا في الوصول للسفارة الالمانية ويقدمان الصور كدليل ، ويحاول موظفي السفارة تأخير عودتهما الى المانيا فتتصل لينا بزميلها كابتن الطيران الذي تعمل معه ويصادف وجوده في رحلة الى سانتياغو فيحجز لهما مكانا ويقرر انتظارهما. في المطار يحاول موظفي السفارة خداع دانيال ولينا تسليمهما الى رجل الدين بايوس ، الذي يصل المطار اثر مكالمة من لحظة لجوء دانيال ولينا الى السفارة . لكن لينا ودانيال يهربان ومستفيدان من خبرة لينا ومعرفتها الاتجاه الصحيح للممرات في المطار ، يهربان ويلحقان للصعود في الطائرة في اللحظات الاخيرة ، وتغادر الطائرة رغم محاولات سلطات المطار منعها.
قضى دانيال ولينا حوالي اربعة شهور في المستعمرة كانت كافية لمعرفة الكثير من المعلومات تدعمها الصور التي جلباها معهما والتي كانت فضيحة مدوية خارج شيلي ، لكن في داخل شيلي لم يتغير شيئا في الاوضاع ، ولا حتى عوقب موظفو السفارة الالمانية المتعاونون مع سلطات الانقلاب . في نهاية الفيلم يعرض لنا صورا وثائقية وحقيقية عن المستعمرة ومعلومات تذكر ان مئات السجناء عذبوا وماتوا هناك ودفنوا بسرية، وخلال 40 عاما فقط 5 اشخاص من نزلاء المستمرة نجحوا في الفرار. وان بايوس اعتقل في الارجنين عام 2004 وحكم بالسجن لمدة 33 عاما لتُهم عدة منها الاستغلال الجنسي للاطفال وانه توفي في السجن في سانتياغو عام 2010 . والمجرم بينوشيه كما هو معروف تملص ونجا من العقوبة والسجن بسبب الخرف . طاقم الفيلم اهدوا عملهم لضحايا المستعمرة، ويعتبر وثيقة انسانية في فضح الديكتاتوريات وفضح فساد المؤسسات الدينية المتواطئة معها .