بعد نشر هذه المقالة يوم الثامن من هذا الشهر، مايس، اجريت عليها تعديلات أضافت شروحات وغيرت بعض الصياغات. وايضا اود الأيضاح للقائ الكريم بأن المقصود بالأنقلاب التدخل القسري من خارج مؤسسات النظام وآلياته يؤدي إلى تقويضه ليستبدل بآخر، والأنقلاب بهذا المعنى يشمل الثورة والغزو العسكري الأجنبي إضافة إلى المعنى الدارج. وأن النظام السياسي الذي يصل إلى الأكتمال والنضج يمتلك مقومات ذاتية للتغير من الداخل إستجابة لبيئته الخارجية، وعند ذاك يجمع بين اداء وظيفتي الأستقرار والتغير، وفي هذا استعير من نظرية الأنظمة الطبيعية. وأن النظام السياسي الحالي في العراق لم يصل إلى الأكتمال والنضج بالمعنى آنف الذكر، والتوجه لتطويره هو الخيار الأفضل. ومن بين معوقات تطوير النظام ان المنتخبين إلى المجلس النيابي، ورؤساء احزابهم و زعمائهم وبصفتهم يمثلون المجموعات السكانية للعراق، لم يتمكنوا من الأنتظام في حوارات ومفاوضات طويلة النفس وبنّاءة لأنهاء المهام التأسيسية المعلقة، وحل النزاعات السياسية الكبرى والتي لا تتمكن اية حكومة من إنجازها لأنها، اي الحكومة، بطبيعة الأمور تبقى مقيدة بالترتيبات التوافقية المعطاة امامها. تأسس العراق الحديث في ظل ألانتداب البريطاني، نتيجة لما انتهت إليه الحرب العالمية ألأولى وما آلت إليه البلاد التي كانت ضمن السلطنة العثمانية. ونال عضوية عصبة ألأمم اعترافا باستقلاله عام 1932، وكان نظام الحكم ملكيا ديمقراطيا نيابيا على غرار المملكة المتحدة. لكن فاعلية النظام بقيت مقيدة بشروط النشأة، ومنها النفوذ البريطاني والوضع الأجتماعي والثقافي آنئذ. ولم تكن النخبة السياسية المؤسِسَة للمملكة العراقية نتاجا لتطور تلقائي تدريجي في المجتمع بل أظهرتها صدمة الأنقلاب الكبير المتمثل بخسارة العثمانيين للحرب، واحتلال بريطانيا للعراق والتمرد المسلح للفرات الأوسط ، ثورة العشرين، واصداؤها ومناصروها في بقية العراق. وفي ذلك السياق تصدّر المشهد الضباط، الذين آثروا الأنفصال عن القيادة التركية، قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى ووصول الجيش البريطاني إلى بغداد، وتحالفوا مع العائلة الهاشمية في الحجاز، ليحكموا العراق بالتعاون مع اداريين ووجهاء عثمانيين. ورغم ان قيادة الدولة الجديدة كانت مدينية، من البيروقراطية العسكرية العثمانية والحكم المحلي للولايات الثلاث، فإن قاعدة النظام تتمثل في المجتمع الريفي وامتداداته في البلدات الصغيرة. ولقد تفاعل التكوين العشائري وثورة العشرين وسياسة الأرض البريطانية - الفيصلية في بلورة البنية الطبقية العشائرية الريفية التي حافظت على حضورها في مجلسي الأمة والأعيان حتى الرابع عشر من تموز عام 1958 . ولا شك ان العراق الحالي صناعة العهد الملكي وعلى وجه الخصوص في التعليم ونظام المالية العامة والأدارة الحكومية المدنية والشرطة والقضاء وضبط حقوق المِلْكية وخدمات المدن. وساعد التعليم الحديث الممول من الحكومة ذوي القدرات العالية من ابناء الفقراء الصعود إلى مراتب عليا في التراتبية الأجتماعية، ومع نمو الأنفاق الحكومي في البناء التحتي وبرامج التنمية( الأعمار)، فيما بعد، إزدادت الحيوية الأقتصادية للمدن واتسعت الفئات الأجتماعية متوسطة الدخل تدريجيا. لكن ذلك الحراك الأقتصادي – الأجتماعي لم ينعكس في المستوى السياسي الذي بقي متصلبا على نشأته الأولى. فالنظام الملكي لم يمتلك في داخله القدرة على التغيّر الذاتي إلى جانب حفظ الأستقرار وهما الوظيفتان اللتان لا بد منهما لأي نظام كفوء. وبقي عاجزا عن تكوين نخبة سياسية جديدة مغايرة للجماعة التي قادت مرحلة التأسيس، وشهد انقلابات منها معروفة واخرى مستورة، اي كان النظام يتعرض إلى ضغوط قوية من خارج مؤسساته الشرعية، حتى اطاح به انقلاب عسكري لا يمكن وصف القائمين به سوى انهم من النواة الصلبة للجيش. واستبدل ألانقلاب العسكري في تموز عام 1958، والذي حظي بتأييد شعبي واسع النطاق، الملكية بالجمهورية لتبدأ حقبة أخرى انتهت بالغزو ألأمريكي وانهيار النظام عام 2003. ولقد تقدم العراق في العهد الجمهوري بخطى واسعة على طريق التطور في الأقتصاد والتعليم ومستوى المعيشة رغم زيادة السكان الذي كان اقل من سبعة ملايين نسمة عام 1958 ليصبح حوالي 25 مليون نسمة عام 2003 . بيد ان التجربة السياسية التي عاشها العراق في العهد الجمهوري وحتى عام 2003 لم تَظهر لها اثار إيجابية ملموسة في نضج سياسي او ثقافي يتجلى في أنّ السياسة لخدمة الناس وحقهم في الحياة الآمنة الكريمة. ويبدو ان ادوات الضبط الذاتي لمختلف انواع السلوك قد تلاشت حاكميتها أوإنحسرت إلاّ في جيوب إجتماعية هنا وهناك وهذه بدورها مخترقة. ومن تأمل الأحداث منذ عام 2003 لا يُستنتج انّ المجتمع قد إستطاع إكتشاف القيمة الأخلاقية للتداول السلمي للسلطة، والتنافس عليها بوسائل سلمية، وهذه القيمة تفسر قوة الأرتباط بين التطور الحضاري والتحول نحو الديمقراطية في العالم. بل يبدو ان النظام السياسي للعهد الجمهوري الذي قام على تداول السلطة بالتدابير السرية والمباغتة المسلحة، والقسوة المفرطة في قمع المنافسين والأنشطة السياسية المعارضة، أدى إلى نكوص اجتماعي – ثقافي مستور بقشرة رقيقة وهشة من مظاهر الحداثة المعاقة بالرعب. وبذلك ضاعت الفرصة للأنتفاع من الحقوق السياسية والحريات المدنية في العهد الجديد. ولم تنعكس الأحتياجات الحياتية للناس أو الخيارات البديلة لمستقبل العراق في تيارات او احزاب تستفيد من الديمقراطية، وتسهم في تعميقها وإثراء مضامينها الممكنة في التنمية والعدالة والأرتقاء الحضاري، وعلى نحو يفصح فعلا عن إبتهاج الناس بالحرية والأمل بالأزدهار. وفي هذا الخضم واجهت مهمات إعادة تشكيل هيئات السلطة والنظام السياسي الجديد، عام 2003 وما بعده، قوة ألإحساس بالانتماء للجماعات الأثنية والدينية، او غياب المجتمع السياسي وطنيا. وما أن وصل الغزو الأمريكي إلى بغداد وإنهار الحكم، ومعه أجهزة الدولة، حتى اصبح العراق مسرحا دمويا لأستعادة كل الحروب في التاريخ البعيد والقريب وحروب اخرى، وكلها من اجل السلطة والزعامة أوتوزيع رواتب الدولة ومقاولاتها ومواقعها الأدارية، شحذت التنافر المذهبي والكراهيات الدفينة. وإشتد التمرد المسلح على الدولة العراقية منذ اواخرعام 2003 رفضا للقوى السياسية المتنفذة بالمجمل او لتقسيم السلطة على نحو آخر، وكانت العمليات الأرهابية ابرز مظاهرذلك التمرد المسلح. وارتضى العراقيون ان يراهم العالم وكأنهم جاليات لدول اجنبية تتقاتل على هذه الأرض المنكوبة، فهل ثمة درك اسفل من هذا اوصلنا إليه تاريخ طويل من الممارسة اللااخلاقية للسياسة. ودلّت المجازر المروعة بعد سقوط الموصل على عمق المشكلة السياسية في التكوين الثقافي والأجتماعي للعراقيين والذي ينتج هذه الكراهيات والأحقاد التي صورتها مشاهد القتل الجماعي بدم بارد. وأدت المواجهات المسلحة مع السلفية الجهادية ومن معها إلى نزوح السكان ومعاناتاتهم الخوف والحرمان ومآسي موت الأطفال والضعفاء وتمزق العوائل. لقد عبّر العنف بجميع اشكاله عن ازمة العراق السياسية، ولا يعني صرف الأذهان عن مسلسل سفك الدماء ودلالاته العميقة تحت ذرائع مختلفة سوى ترويض الناس على دوام الواضع الراهن. اما الفساد الأداري والهدر المالي، وضعف اجهزة الدولة في الخدمات وعجزها التنموي، فهي مظاهر اخرى لتلك الأزمة ادنى من العنف ليس في سلّم القيم ومعايير الأخلاق السياسية وحسب بل في شدة ارتباطها بجذور الأزمة السياسية ايضا. إن توزيع مقاعد المجلس النيابي ومواقع الأدارة الحكومية ، في بغداد والمحافظات، بالمجاملات والنزوات الشخصية خيانة للأمانة، لكن المصيبة الأكبر ان تسفك دماء الناس الأبرياء والدموع والمآتم في كل مكان لأعادة توزيع تلك المناصب لحكم هؤلاء الناس المفجوعين. ولم تساعد الأنتخابات الأخيرة وتشكيل الحكومة الجديدة، والدعم الأمريكي والأقليمي المعلن لرئيس الوزراء، في وضع العراق على مسار جديد يقود إلى الأستقرار والأزدهار. وكان الخطاب السياسي يعج بالشكوى من هيمنة رئيس الوزراء السابق على حساب الشركاء من التحالف الوطني والسنة والكورد، و يقال ان تلك الهيمنة سبب رئيسي للأضطراب الأمني وتدني اداء الدولة. وتبنت الولايات المتحدة الأمريكية هذا الموقف تجاه الحكومة السابقة وعبّرت عنه في تصريحات رسمية على اعلى المستويات، وغضّت النظر عن ضغوط دول المنطقة على العراق وتعمّدت الأبطاء في تسليح الجيش حتى سقوط الموصل. وفي الحقيقة ان اداء رئيس الوزراء السابق وشكوى الشركاء منه والمناورات والتوافقات القلقة كلها مظاهر لأزمة السياسة والأعاقات المتبادلة التي تعطل فاعلية النظام وتمنع تطويره نحو الأكتمال. وبعد مدة وجيزة تغيرت الفلسفة السياسية فأصبحت الدعوة قوية مع رئيس الوزراء الحالي لأبعاد أؤلئك الشركاء وأحزابهم السياسية عن مجلس الوزراء والهيئات المستقلة ومواقع الأدارة في الجهاز البيروقراطي، وتقليص المناصب العليا. وفي جميع الأحوال بقيت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في العالم ودول الجوار مصرّة على التعامل السياسي مع العراق على انه طوائف واثنيات كبيرة وصغيرة وعشائر وزعماء، وحكومة العراق واحدة من عدة كيانات لاعبة في الشأن العام. ولازالت التصريحات من شخصيات امريكية رسمية وتقارير لجهات تمثل السياسة الأمريكية تكرر عبارات مثل " من يمسك الأرض بعد داعش"، وأن اهل الموصل والأنبار لايريدون في مناطقهم قوات يهيمن عليها الشيعة، بل يدور نقاش حول من هي الجهة العسكرية التي تدخل الموصل اولا؟ الجيش العراقي ام قوات محلية تشرف تركيا على تدريب فصائل منها. وثمة تماثل رغم الفاصل الزمني الذي يقترب من ستة عقود بين النظام السياسي الحالي، بعد الأحتلال الأمريكي، والنظام المؤسس لدولة العراق بعد الأحتلال البريطاني. إذ ان النظام الجديد يعجز ايضا عن امتلاك القدرة الذاتية لأحداث التغيّر المطلوب استجابة للضغوط الموضوعية الناتجة عن الفشل، وتستمر الأزمة رغم المطالبة الشعبية الواسعة بتحسين اداء الدولة. فلماذا لا يتمكن مجتمع العراق عبرالترتيبات الديمقراطية السلمية من انتاج او تغيير الطبقة الحاكمة، ولماذا لايتجه اهل الفكر والمعرفة والمثقفين والنشطاء النزيهين إلى صناعة مثل هذا النظام، إنطلاقا مما موجود لدينا الآن، بدلا من التطلع إلى إنقلاب آخر ربما يقود إلى فناء . لكن النظام الجديد يختلف عن تجربة العهد الملكي لأن بريطانيا أصرت على وحدة الكيان العراقي بثبات رغم ان الأنقسام الأثني - الطائفي الحالي له جذور في المرحلة التأسيسية للدولة العراقية الحديثة وقبلها في الزمن العثماني. فإلى جانب إيمان الكورد بأن لهم الحق في دولة مستقلة منذ اللحظة ألأولى لتأسيس المملكة العراقية، فان جماعات أخرى بقيت تشعر بالحيف الثقافي أو ألاثني أو الغبن السياسي، ومع ذلك حافظ العراق على وحدته التي يفتقدها الآن. بينما تعاملت أمريكا مع العراق على انه جغرافية مفتوحة على الخارج بجميع مكوناتها، وتشتغل الولايات المتحدة مع تلك المكونات كل على حدة بمزاج يتغير حسب موقفها من ايران، ومتطلبات امن اسرائيل وشروط ادامة علاقاتها مع حلفائها الآخرين في المنطقة، وأغرت السياسات الأمريكية القوى المتنافسة على السلطة والدور بالمزيد من التناحر. وما أن اجتاز الحراك المدني – الصدري حاجز المنطقة الخضراء ودخل بناية المجلس النيابي حتى ظهرت الوصفة التي يتكرر عرضها يتكرر عرضها ة لحل المشكلة السياسية " كيان فدرالي للسنة شبيه بكردستان مع لامركزية في إدارة الثروة النفطية"!! وهي لا تختلف عن " انجع طريقة لمعالجة الصداع". والآن وفي خضم المعمعة الجديدة، ومع كل الصعوبات والمعاناة والفشل، لا بد من التذكير بأن سقوط الديمقراطية يقود إلى انهيار أجهزة الدولة ويعرض العراق إلى مخاطر هائلة. إن الحكومة العراقية تتولى فعليا إدارة النطاق العربي من العراق، والأصلاح الذي يقصده الحراك هو في هذا النطاق وليس كردستان، والأفضل الضغط على احزاب التحالف الوطني وغرب العراق لأنهاء نزاعهم السياسي حول السلطة والنفوذ. وفسح المجال لتعديل النظام السياسي لدولة متماسكة تحفظ الأمن وتديم السلم الأهلي ومن خلال الديمقراطية. لقد أنتج التأسيس الجديد، رغم نواقصه المعروفة وأخطائه الفادحة، دستورا مستفتى عليه، وانتخابات منتظمة، و نظام حكم نيابي و فضاء للرأي والرأي الآخر، و حريات واسعة في تشكيل ألأحزاب ومنظمات المجتمع المدني . ويمكن تعديل الدستور وتغيير النظام الأنتخابي وضوابط الترشيح وتشجيع إنخراط قوى جديدة في الساحة السياسية. والمباشرة في إعادة بناء اجهزة الدولة على اسس من المعرفة العملياتية التفصيلية، إلى جانب تعميق الوعي بالدولة المعاصرة وكيف تعمل وتنظيمها وإدارتها وسياساتها الممكنة في الأقتصاد والأمن والرفاه.
|