ضمير الكادح بين القناعة و صعوبة الحياة

 

كما يُقال، صحيح ان الضمير شمعة في قلب كل انسان مظلم، ان اشعلتها لربما ستتألم قليلا من حرارتها و لكنها ستنير لك طريقك الصحيح. فهل يتعض الجميع من هذه المقولة و هل الحياة تزكي و تؤيدها عمليا، للجميع دون اي استثناء ، ام يختلف من شخص لاخر و تاثيرات فعل الضمير و تداعياته و نسبة صحته و سلامته والالتزام به يختلف من فئة و طبقة و فرد لاخر، او يكون حسب نوعية و شكل المعيشة و البيئة و الثقافةالعامة .
باختصار شديد، صادفت عاملا بريئا مقتنعا بحياته البسيطة الجميلة جدا حسب تقيمي، وهو صاحب خمسة ابناء و زوجة و يعيش في غرفة متوسطة الحجم عند بيت اهله راضيا مرضيا . قال لي منذ بداية حديثه و اثبت لي نبله و بشاشته و خفة دمه وحتى كرمه، قال: انا لا اصلي و لا اصوم حتى الان و انا في هذا العمر، و لكن اقوله بصوت عالي، انا صاحب ضمير حي يدعني سعيدا مرتاح البال و مقتنع بنمط حياتي، لا اغش و لا اخدع نفسي، فهمت الحياة وفق قناعاتي و خبرتي المعيشية البسيطة دون اي تعليم يذكر، و هذا نقصي الكبير .
رايته و احسسته صادقا في كلامه و اثبت لي ذلك عمليافيما بعد، كان نشطا في عمله و انا اراقبه من بعيد دون ان يعلم، و يعمل و كانه احد افراد صاحب العمل و لم اكتشف نفسي له خلال تلك الفترة كي لا تُعكر قناعتي بصدقه و خاصة عند مقارنته بزملائه العمال الذين كانوا معه، و من خلال ذلك اكتشفته و ادركت الفرق بين تفكيره و نظرته الى الحياة و تعامله مع تفصيلاتها ومع غيره . و عند انتهاء العمل طلب غيره المكافئة قبل الاجرة كالمعتاد، هو واقف من بعيد شامخ عزيز النفس و كانه لا يهمه الامر و لم يبال بما يفعله زملائه، فاستلم الاجرة و لم ينطق بكلمة، بل ابتسم و كانه يعلم انه حقه لا اكثر و لا اقل، و عندما طلب منه صاحب العمل ان يعطيه المكافئة كما زملائه، رفض قائلا: انني لم اتعامل معك على المكافئة، بل هذا من حقي و لم افرط في حقي فقط، و في عملي ضميري هو الحاكم . والحق انه كان صادقا صديقا، رغم الالحاح ، لم يقبل بالزائد كان عنيدا صامدا في وقفته و قناعته . و اخيرا قرر صاحب العمل ان يشتري هدية لابنه الصغير سواء قبل به ام لم يقبل، لاعجابه بما بدر منه من درس عظيم لو تمعنا في صلب معانيه و ما يعنيه تلك القناعات المبهرة للجميع .
هذا هو مربط الفرس في تحليل شخصية ما، بسيطا كان ام لا وفق فكره و نظرته للحياة و ما يعيشه، و في مثل هذه الصعوبة من المعيشة في حياة العراق اليوم، و هو يعتمد على ضميره و قناعاته دون اي شيء اخر، و عندما سالت عنه، كان الجميع يصفه باستقامته و نبل اخلاقه و شهامته و عصاميته،فيا له من رجل عظيم و كم من هذا لدينا يا ترى .
و في المقابل هناك من يعيش في حياة فارهة و في ثراء فاحش، و لكنه غير مرتاح الضمير لعدم قناعته الذاتية بمصادر معيشته المجهولة، وكذلك بذاته، و مع ذلك يصلي و يصوم ولكنه لم يحج بيت الله و هو يستطيع اليه سبيلا . و على عكس العامل الكادح البريء، و على الرغم من انه يُعتبر عند هؤلاء الناس ملحدا كفورا .
هنا يبرز السؤال الصعب لنا جميعا، من يختار طريق السلامة النفسية لذاته، و من يريد السعادة المزيفة و الفرح السطحي الزائل، و ما السبل الى ذلك، انه لامر صعب لا يمكن ان يختار الجميع القناعات الذاتية فقط دون النظر الى ما يريده المجتمع. لا يمكن ان نجيب عن السؤال بلساننا او بالمنطق فقط ،و لا يمكن بيان الصحة الا بمسيرة حياتية و نظرة و قناعة و فكر ثابت للحياة عمليا . من يختار الصح يمكن ان يتحمل الثقل النفسي و الجسمي و الصعاب الحياتي و لكنه يبقى انساني الفكر و العقلية انه من طينة بيئة و تربية و عقل و نظرة و قناعة صحيحة، و يتعامل مع مسيرة الحياة بما يتطلبه صلب الحياة، بعيد كل البعد عن كل ما يمت بماوراء الطبيعة و المثاليات و الخرافات ، و لكنه مقتنع بما يعتقد و يؤمن بما هو صح و مرضي له و قناعاته.