إذا كان الربيع العربي قد انقلب عند الشعوب إلى خريف بلا غلال، فإنه قد يتحول إلى حقبة جليدية لمكونات الإسلام السياسي الذي استدرج بلا روية إلى سباق الركبان في سوق السحت، وأطلق العنان لشبق مفرط للسلطة، سوف ينتهي به إلى ما انتهت إليه نخب النظم الوطنية والقومية النافقة.
لا شك أن الإسلام السياسي وهو ينتقل، من التهميش والإقصاء والحظر والمنع، وفي أحسن أحوله وهو في صفوف المعارضة، إلى سدة الحكم وعتباتها المقدسة، يكون قد فشل مثل خصومه التقليديين من القوى القومية والوطنية وما جاورهما من الكيانات البعثية، واليسارية، والليبرالية، منذ عودة العالم الإسلامي إلى الواجهة، وانعتاقه من إصر الاستعمار الغربي.
ولا يبدو أن الإسلام السياسي، الذي دخل حلبة الصراع على السلطة متأخرا عن الكيانات الأخرى، قد استفاد كثيرا من الأخطاء القاتلة التي سقط فيها التيار القومي والوطني، أو أنه كلف نفسه مؤونة البحث في أسباب فشل الآخرين على امتداد ثمانية عقود في بناء الدولة الحديثة، القادرة على الوفاء بحاجيات ومطالب الشعوب، في الحقوق السياسية والحقوق العامة، كما في التنمية والتقسيم العادل للثروة، أو في الدفاع عن مقومات السيادة.
في الثمانينيات من القرن الماضي، وفي أعقاب الانتكاسات المتلاحقة للتيار القومي العربي في ساحة التنمية وبناء الدولة الحديثة، كما في ساحة الدفاع عن السيادة وعن حقوق الشعوب، بدأت الشعوب العربية تلتفت بجدية إلى البديل الذي يعد به الإسلام السياسي، وهي مطمئنة إلى أن انتسابه للمرجعية الإسلامية قد يكفل للشعوب على الأقل تحريرها من التبعية المهينة للقوى الغربية المهيمنة، كما كان يعول على التيار الإسلامي أن يقدم بديلا أكثر عدلا في توزيع الثروة الوطنية، أو على الأقل حمايتها من الافتراس الأجنبي، ومن اعتلاف النخب الحاكمة، ولم تسأل نخب الإسلام السياسي عن طبيعة الدولة البديلة، بحكم أنها رفعت شعار الدولة الإسلامية، التي رسخت صورتها في الذاكرة الجماعية لعموم المسلمين من الصورة المثالية لها، المستوردة من زمن الخلافة الراشدة.
حصاد الإسلاميين من ربيع الشعوب
ومما لا شك فيه أيضا، أن الإسلام السياسي قد دخل حلبة التنافس على الحكم وهو يمتلك رصيدا كبيرا من ثقة الناس فيه، تعاظم بنسبة عكسية مع تعاظم منسوب الفشل المتراكم لأنظمة الحكم القومية والوطنية على معظم الأصعدة، وقد سمح وصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في تركيا، ونجاح بعض التطبيقات الإسلامية في أندونيسيا وماليزيا، وما قدمه النموذج الإيراني في سياق بناء مقومات القوة الصلبة، كل ذلك يكون قد عزز تطلع الشعوب العربية إلى قيام بديل إسلامي، يعول عليه في تجاوز العجز والقصور بل والفشل الذي انتهى بانقطاع حبل الرجاء من الأنظمة القومية والوطنية، التي سقطت في إدارة جميع المعارك، في الداخل مع الجهل والتخلف، ومع الخصوم والأعداء من الخارج من القوى التي تفترس ثروات العرب وتهينهم في كرامتهم.
مع وجود هذا الرصيد من ثقة الشعوب وتطلعها إلى البديل الإسلامي، الذي ساهمت الأنظمة القائمة في صناعته وتغذيته، كان يفترض أن ينجح الإسلام السياسي في طرق باب الحكم بيسر، وأن يستلم المشعل بسلاسة وبأقل كلفة، وقد تهيأت له الأسباب، وجاءته أكثر من فرصة في أكثر من قطر وبلد عربي وإسلامي، ليصنع البديل الناجح المنتج للقدوة الحسنة.
ومن باب الأمانة، فإن ما وفره حراك الربيع العربي من فرص غير مسبوقة، ومن حسن استقبال غير متوقع للإسلام السياسي سواء في تونس أو مصر، ومن قبول دولي غربي مثير للريبة والشك، ووقوف المؤسسات العسكرية والأمنية وجانب من الدولة العميقة على الحياد في البداية، كان كل ذلك يبشر بمسار استلام سلس للسلطة، تكون فيه الكيانات الإسلامية قائدة لعملية تغيير وتحديث، يعلم الجميع أنها تحتاج إلى شراكة واسعة مع بقية المكونات السياسية، بل وإلى مسار تصالحي مفتوح مع مكونات الدولة العميقة ومؤسساتها العريقة، في الإدارة، والأمن، والقضاء، ولو من باب اتقاء شرها، وواجب تحييد مواطن التعطيل فيها لمسار التغيير.
تنكر الجماعة لسنن عام الجماعة
قبيل اندلاع أحداث الربيع العربي بأسابيع، كنت قد دعوت النخب العربية ومنها النخب الإسلامية إلى البحث عن سبل مبتكرة لعقد تسويات تاريخية مع النظم القائمة، والبحث معها عن صيغة عصرية لما يعدل عام الجماعة الذي جربه المسلمون مع نهاية حقبة الخلافة الراشدة، وقد استشرفت وقتها انسداد مسارات تغيير نظم الحكم عبر المسارات التعدية المغشوشة، وخطورة الانخراط في المسارات الثورية العنيفة المكلفة، وقدمت أمثلة كثيرة على تسويات حصلت في التاريخ الإسلامي، وعند شعوب وأمم مجاورة كثيرة، وضربت أمثلة لها في ما حصل من تسويات تاريخية قادت إلى توحيد القوى المتصارعة من الشعوب الألمانية والإيطالية، وذكرت بأمثلة حديثة عن تسويات تاريخية بين النخب المتصارعة على السلطة، هي التي أخرجت الشعب الروسي من تبعات انهيار الإتحاد السوفييتي، و تسويات قادت النخبة الصينية إلى مراجعة موجعة لخيارات عقائدية دغماتية راسخة، لنراها اليوم تنجز المعجزة التنموية الباهرة، وكذلك فعل الهنود والبرازليون ورفاق منديلا في جنوب إفريقيا، حتى أن مجمل شعوب ودول مجموعة البريكس، التي تقود اليوم قاطرة الاقتصاد العالمي في زمن أزمة الرأسمالية العالمية في المركز، إنما وصلت إلى ما وصلت إليه عبر انخراطها في مسارات إصلاحية ناعمة، لم تستهدف إسقاط نظم الحكم الفاسدة واستئصال المستبدين، بقدر ما أطاحت بخيار المغالبة المكلفة بين النخب على السلطة، وفضلت خيار التوافق والتسويات الآمنة على سبل المغالبة المكلفة.
وحيث أن الفرصة قد توفرت لواحد من أعرق مكونات الإسلام السياسي، ممثلا في التيار الإخواني، صاحب التجربة التاريخية العريقة في المعارضة، وهو أكثر التيارات الإسلامية إلماما بالعداء الغربي التاريخي المتأصل لكل مل له صلة بالإسلام، وبمواطن التعويق المتجذرة في الدولة العميقة، فقد كان لزاما على قادة الإسلام السياسي أن يكونوا سباقين لعرض جملة من التسويات، ابتداء مع القوى السياسية التي شاركتهم في معارضة النظام السابق، ثم في فعاليات ما سمي بالثورة التي أطاحت برأس النظام، والسعي بعد ذلك إلى بناء تسويات وتوافقات مع مكونات الدولة العميقة التي لم تسقط، ولا تسقط عادة مع سقوط رأس السلطة، ومنها المؤسسات العريقة المؤثرة مثل المؤسسة العسكرية والأمنية، والقضاء، والمنظومة البيروقراطية الإدارية للدولة، وأخيرا البحث عن سبل لاستقطاب واسترضاء الفاعلين الاجتماعيين، من أرباب العمل والنقابات، فضلا عن المؤسسات الدينية، ومكونات الفضاء الإعلامي.
الشبق القاتل لفراش السلطة
الحاصل أن الإخوان في مصر تحديدا قد ارتكبوا نفس الخطيئة التي ارتكبتها من قبل قيادة جبهة الإنقاذ في الجزائر، حين بادرت وهي على أبواب السلطة إلى استعداء مكونات لها وزنها في الدولة العميقة، بدءا بالرئاسة، والجيش، وكثيرا من البؤر البيروقراطية المؤثرة في تسيير الدولة، وحفزت الجميع على الانخراط في الانقلاب على المسار الدستوري بالكلفة التي يعلمها الجميع.
وعلى ما يبدو فإن معظم مكونات تيار الإسلام السياسي في معظم التجارب المنوه بها أعلاه، تشترك في ثلاث آفات قاتلة عوقت، وتعوق، وسوف تعوق مسار الإسلام السياسي نحو إنتاج بديل للحكم يعول عليه:
الآفة الأولى: شبق مفرط للسلطة، واستباق مشين لركبانها، وطرق لأبوابها بما هو مشروع وما لا يرضاه الشرع، مع قصور واضح في الانفتاح على الآخر، وعجز بين في بناء تحالفات مرحلية مع القوى السياسية المنافسة، ومنها القوى الوطنية والقومية، التي ليس لها مع الإسلام السياسي خصومة عقائدية، كما هو الحال مع التيارات اليسارية والعلمانية.
الآفة الثانية: إنكار مفرط لمتطلبات إدارة الدولة، ولاستحقاقات المراحل الانتقالية، التي توجب طمأنة مكونات الدولة العميقة ومؤسساتها، كما توجب طمأنة القوى الفاعلة في الاقتصاد، وفي الساحات الاجتماعية، والثقافية، والدينية، والإعلامية، ورفضها الدخول في تسويات مرحلية براغماتية، تحيد أكبر قدر ممكن من القوى المرشحة لتعويق إدارة البلد، إلى حين إعادة تشكيل الدولة العميقة بسياسات ناعمة متدرجة، تبرأ من تهمة التمكين والتفرد وإقصاء الآخر التي توجه اليوم للإسلام السياسي.
الآفة الثالثة: إنكار مفرط بنفس القدر لمعوقات المحيط الدولي، الذي يحتاج إلى التعامل معه بقدر من البراغماتية والدهاء، وقد يحتاج أحيانا إلى تأجيل موعد الدخول في مواجهات مبكرة مع قوى دولية معادية بالضرورة وبالفطرة، ليست مستعدة للقبول بقيام أنظمة حكم ذات سيادة بمرجعية إسلامية، تراجعها في المكتسب من مصالحها، على الأقل إلى حين إعادة بناء الجبهة الداخلية، وإخماد بؤر التوتر الداخلي، وسد المنافذ أمام التأثير الخارجي على مكونات ونسيج المجتمع، والتسلل إليه من بوابات إثارة الفتن العرقية، والطائفية، والمذهبية.
مغارم سباق الركبان في سوق السلطة
مكونات الإسلام السياسي، وهي معوقة بهذه الآفات، التي تشترك فيها مع من سبقها إلى السلطة من القوى الوطنية والقومية، تكون قد سقطت في خطيئة قاتلة، حين سابقت ركبان منافسيها إلى سوق السلطة، وهي تعلم ثقل التركة وعظمة التحديات، مع ضعف الحيلة، وقلة الوسيلة، وهوان شعوبها على الشقيق قبل الصديق والعدو، ولم تلتفت إلى أنها ذاهبة إلى حتفها بظلفها، ومقبلة على مصيدة لن تخرج منها سالمة، وأن ما كان يصل قيادات الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة من تشجيع غربي، يحفزها على اقتناص الفرصة، بعد أن ظل لعقود يخوف بها النظم الساقطة، إنما كان مشروطا بواجب الدخول المبكر للإسلام السياسي بيت الطاعة، واستعداده لتقديم مقدم الصداق والمؤخر منه قبل ليلة الدخلة، أو في الساعة التي تلي تذوقه لعسيلة السلطة.
الأخطر من كل ما سبق أن الإسلام السياسي، وبمختلف تشكيلاته ومرجعياته، لا يظهر حتى الآن أي استعداد للمراجعة الذاتية، وقبول النقد الكاشف حتى من أقرب الناس إليه، فضلا عن تقبل رأي المخالف المنافس، أو العدو المترصد به، وهو لأجل ذلك قد حرم نفسه وسائل التحصين من إغراءات السقوط المبكر في الاستبداد، الذي ينشأ لحظة امتناع الحاكم عن الإصغاء حتى لمن حسنت نيته، وأجتهد ليهب له عيوبه على انفراد، قبل أن تفتضح سوءاته على الملا.