المورفولوجية وتطور الجغرافية الإجتماعية

 

الجغرافية الاجتماعية علم طموح يفسر تكوين المجتمعات البشرية كلها من أبسطها حتى أشدها تعقيداً، وأن المرء إذا استمع إلى الجغرافيين ليخيل اليه أن جميع العلوم الاجتماعية طوع أمرهم من خلال الربط بين الجغرافية والمجتمع.

وقد لفت دور*كايم* الانظار إلى ضرورة دراسة المجتمعات البشرية على أساس اجتماعي فإنه لا ريب فيه أنه لا يمكن فهم المجتمعات البشرية دون الأساس الجغرافي الذي نعيش عليه، إن علم المورفولوجية الاجتماعية يوجه اهتمامه إلى المجتمع من حيث تكوينه، عدد سكانه وعلاقتهم بالبيئة، ولكنه يهتم أولاً بالمجتمع، ومنهج دراسته اجتماعي. أما الجغرافية فهي تهتم أولا بالمكان أي البيئة وعلاقة الإنسان أو المجتمع بهذه البيئة.

إلى جانب المورفولوجية الاجتماعية، نشأت في هذا الوقت أيضاً مدرسة جغرافية في فرنسا، لا تسلم بحتمية البيئة، ولا بطغيانها القاسي على الانسان والمجتمع، ولكنها تعترف بالحرية الانسانية، وتعطي للظروف البشرية والاجتماعية أهميتها في الاستجابة للظروف البيئية. وتعرف هذه المدرسة بالمدرسة الإمكانية Possibilism.

مؤسس هذه المدرسة هو* فيدال دي لابلاش Pual Vidal De la Blache * الذي وجه اهتمامه إلى الجغرافية، بعد أن أعد نفسه ليكون مؤرخاً عام 1927 وقد بدأ بدراسة آثار (همبولت وريتر وراتزل)، ثم بدأ إصدار مجموعات حوليات جغرافية منذ عام 1891 وأشرف على إخراج جيل من الجغرافيين في مدرسة المعلمين العليا ثم جامعة السوربون.

فالبيئة لم تعد مظهراً طبيعياً ، بل مظهر إنساني وهذا المظهر هو في الواقع المظهر الجغرافي، ولذلك يجب دراسته على أساس تاريخي، أي دراسة تطور هذا المظهر من حالته الطبيعية إلى حالته الإنسانية، وتحليل جهود الإنسان في علاقاته مع البيئة خلال التاريخ حتى انتهائها إلى المظهر الجغرافي الحالي.

وقد استخدم الحتميون فكرة تأثير عوامل البيئة الطبيعية في محاولة تفسير صفات الشعوب وميولها الذهنية استخداماً سيئاً، فقد كان من السهل أن يرجع أي باحث في تفسيره إلى آثر تلك العوامل، ولا غرابة في أن تؤثر مظاهر البيئة الطبيعية في خيال الشاعر، أو أن يستوحي الفنان البيئة الطبيعية التي يعيش فيها آيات فنه، ولكن الإنسان أيضاً يحمل معه صفاته الذهنية التي اكتسبها في بيئته الأصلية وينقلها مهاجراً من وطنه مع قبيلته أو بمفرده، كما أن الناس يختلف بعضهم عن بعض اختلافات لا نهاية لها، من حيث الطباع والميول النفسية، ومن ثم كانت البيئة الواحدة موطناً لعناصر شتى من السكان، ويختلف بعضهم عن البعض الآخر في الذوق والمزاج والطباع مما أدى إلى التنوع الحضاري.

إن عناصر البيئة متنوعة وإمكانياتها لا حصر لها والإنسان هو الذي يختار من هذه العناصر ما يناسبه ويستغله حسب طاقته الذهنية ومقدرته العقلية ومهارته اليدوية والآلية وبيئته الحضارية، وإن قوى الابتكار والمنطق والتفكير التي يمتاز بها الانسان لتصل به أن يكون مجرد انسان سلبي خاضع لظروف طبيعية وقدرة غاشمة، فإن الإنسان وحده يرجع أمر اختيار إحدى إمكانيات البيئة أو بعضها في وقت آخر، حسب ما أوتي من مهارة وما وصل إليه من مستوى حضاري وثقافي، فإن البيئة تنطوي على إمكانيات عديدة وللإنسان حرية اختيار هذه الإمكانيات بقدر ما يستطيع فليس النهر يجبر الإنسان على استعماله في الملاحة أو في الرَّي وليست الأرض الخصبة بدافعة للإنسان قسراً على الزراعة وليس وجود مناجم معدنية بدافعة له على استعمالها.

إن العقبات الطبيعية لم تمنع الإنسان من التفكير في التغلب عليها فأقام الجسور وشق الأنفاق الجبلية وأقام مشاريع الري وقطع الغابات وحول السهوب إلى حقول قمح، وضبط مجاري الأنهار ونظم فيضاناتها وأضاف أنواعاً جديدة من النباتات المفيدة له لتلائم أجواء قاسية ما كان لها أن تنمو فيها.

ليس هناك تحكم من جانب واحد ، فلا البيئة تستأثر بالتأثير في الانسان ولا الإنسان ينفرد في التأثير فيها، بل هناك تبادل تأثير قطبين متقابلين هما البيئة والإنسان والأمثلة على ذلك عديدة فمصر ليست هبة النيل فحسب كما قال *هيرودت* بل هي هبة النيل ونتيجة مجهود ساكن ضفاف النيل، ذلك الذي هذب مجراه وأقام جسوره، وبذلك أمن شر فيضاناته ونظم دورته الزراعية، لا بل أنه نظم توزيع مائة من القنوات والترع هذا الى أن المصري منذ عهد *محمد علي* قد حول الاقتصاد الزراعي التقليدي الذي يرجع إلى آلاف السنين من شتوية (قمح وبقول) إلى زراعة صيفية تعتمد على الرَّي وحده ، وعلى توزيعه بحساب موقوت مضبوط.

وهناك سهوب تركستان في أواسط آسيا موطن القرغيز والتركمان أي الرعاة التقليديين الذين وصفهم* ديمولان* في كتابه، أين هم الآن؟ لقد ثبتوا في قرى ثابتة وسكنوا المدن الصناعية وتحولوا إلى زُرَّاع قمح، بل واحتشدوا في مصانع الصلب والحديد في جمهوريتين تركمانستان وأذربيجان الحديثتين.

وللنظر إلى الصين واليابان، ظلت الأولى حتى وقت في حياتها التقليدية القديمة، زُرَّاع أرز، على الرغم من وجود ثروات كبيرة من الفحم تحت حقول الارز التي تغمرها المياه بينما الثانية اتجهت اتجاهاً أوروبياً صناعياً منذ منتصف القرن التاسع عشر بالرغم من أنها تستورد الفحم من الخارج وإن تحولت الاولى إلى الصناعة بعد عام 1987 وأصبحت عملاقاً صناعياً بين القوى الكبرى.

إن الأمثلة عديدة لا تعوز الباحث من أي قطر من الأقطار، خلال فترات التاريخ، وكلها تشير إلى مبدأ واحد وهو أن المجتمعات الإنسانية لأسباب عديدة كلها تاريخية انسانية تختار إحدى إمكانيات البيئة أو بعضها في وقت ما، وتختار غيرها أو تضيف إليها في آخر، فالبطاطس عماد الغذاء في أوروبا وعماد الثروة الزراعية في ايرلنده لم تعرف إلا بعد كشف العالم الجديد وكذلك المطاط والتبغ والذرة الامريكية بالرغم من أنها تحتل في البلاد التي تزرعها في الوقت الحاضر نسبة كبيرة من الانتاج العالمي، وفي الحياة الصناعية والاقتصادية والاجتماعية مكاناً مرموقاً كلها كانت مجهولة لقسط كبير نشط في البشرية إلى أن تم كشف أمريكا مبدأ الاختيار لا يخضع إلا لمؤثرات اجتماعية يلخصها مبدأ انتشار الحضارة فالإنسان لا يعيش منفرداً ولا معنى لتجريده عن المجتمع وما ينبغي لنا أن نتحدث عن الانسان بل يجب أن نتحدث عن المجتمعات الإنسانية التي تؤثر بعضها في البعض الآخر بطريق التقليد أو القهر والاجبار على اتباع أسلوب معين من الحياة، ولهذا تنتقل المؤثرات الحضارية التي تفتح آفاق الاختيار من عناصر البيئة.

فإنتشار الزراعة أو انتشار استعمال المعدن يدفع بالمجتمعات التي تعلمت الزراعة أو استعمال المعدن إلى اختيار إمكانيات الزراعة أو المعدن من بيئتها واستغلالها، وتعلم فن جديد في أي ناحية من نواحي الاستغلال الاقتصادي للبيئة يوجه الأنظار إلى البحث عن إمكانيات هذا الفن في البيئة.

كما أن الاختيار يخضع للذوق الاجتماعي العام، الذي لا يكتسبه الفرد إلا من المجتمع فمثلاً تحريم الخمر في الاسلام أبعد المسلمين عن استغلال الكروم في صناعة الخمور في جزء كبير من حوض البحر المتوسط ، وتحريم أكل الخنزير لم يشجع صناعة تربية هذا الحيوان في العالم الاسلامي، وتقديس البقر عند الهندوس، حرم الهند من استغلال مورد حيواني ضخم واعتناق شطر كبير من القبائل المغولية للديانة البوذية، وانتشار الرهبنة البوذية بينهم، قلل من تكاثرهم ومن ثم قلل من خطر زحفهم وانقضاضهم على البلاد الزراعية المجاورة في وسط آسيا.

إن المجتمع يتدخل بما يفرضه من تقاليد ومعتقدات وأساليب حياة بين الانسان والبيئة، وهذه جميعاً تحول اختيار الانسان لإمكانيات البيئة وتؤثر في المجتمعات البشرية في في قدرات مختلفة، في مختلف الأقاليم في العالم، وبين ظروف البيئة الجغرافية بقدر ما يسعه توفر مادة البحث.

وهكذا يصبح علم الجغرافية الاجتماعية علماً جغرافياً اجتماعياً انسانياً تاريخياً، وقد أفاض الأستاذ *لوسيان فيفر* في كتابه “المقدمة الجغرافية للتاريخ” في شرح أسلوب البحث الجغرافي، مستقلاً ومتميزاً عن أسلوب البحث الاجتماعي، ولكنه كان يدرك الحقيقة إدراكاً كاملاً بحيث يجعله لا يبخس الفرد حقه من التقدير، وبحيث يقدر مجهوده ومثابرته، يفضل ما وهب من عقل وقوة وتفكير، ويفضل ما أوتيه من نشاط تلقائي وذكاء خارق وقوة إرادة، ثم هو يبين أن هذا العقل هو الذي جعله حكماً في قوة اختيار الإمكانيات التي يهتدي إليها، ويتأثر بمؤثرات اجتماعية عديدة خلال التاريخ، فلا بد من دراسة التطور التاريخي لكي نفهم لماذا اختار إمكانيات معينة دون أخرى؟

وينفي *لوسيان فيفر* أن تكون ثمة ضرورات في البيئة الجغرافية، بل أنه يقول “إنه لا توجد سوى إمكانيات، والإنسان سيد الإمكانيات، هو الحكم في اختيارها”.

ولكن مهما غالينا في تقدير حرية الإنسان، لا بد وأنها محدودة بحدود الظروف الطبيعية التي يعيش فيها مثل المناخ والغطاء النباتي، وبحدود ما تشتمل عليه باطن الأرض من ثروة معدنية إضافة لمقدراته العقلية ومهاراته في البحث والتنقيب عنها واستغلالها، فإننا نجد أن العامل الهام الذي يحدد إمكانيات البيئة هو المناخ، وما يترتب عليه من حياة نباتية، فالإنسان لن يستطيع أن يزرع المطاط في المنطقة القطبية، أو يزرع الكروم في شمال أوروبا، كما أن الصحراء ستظل صحراء ولن تقوم بها زراعة إلا حول العيون والآبار أو حيث يتوفر ماء الري، وسيظل طول فصل الإنبات هو الذي يحدد نطاق القمح في كندا، وستظل مشكلة الماء تواجه مراعي ماري ودارلنج في استراليا هذه دون شك ظروف طبيعية قاهرة، تحدد الإطار العام الذي يتحرك الإنسان داخلة في حرية، وتحدد مجال الامكانيات التي يختار منها الإنسان حسب مقدراته ومطالبه.