خداع النفس في المجتمع

 

خداع النفس وشفاء النفس البشرية، موضوع واحد ذو وجهين، والوجه الواحد منه يتناول طرقاً متعددة من السلوك البشري تهم المعالج النفساني، وخداع النفس البشري سلوك يحاربه الاثنان معا، كما ان شفاء النفس عمل يمارسه الاثنان أيضا بطرائقهما الخاصة. فطرق الالتقاء بينهما كثيرة..، على الرغم من ان هذا الموضوع موجهة إلى الآباء والأساتذة في جميع مراحل الحياة التعليمية والتثقيفية.ان خداع الذات يمكن في مثال ذلك: قصة النعامة المشهورة التي تطمر راسها في الرمل اذا احست بالخطر، وكأن من لايَرى لايُرى . كذلك المرء، تصل به الامور الى حالة النعامة دون ان يعلم حقيقية عمله. فكيف يتم ذلك في نظر علم التنفس البشري.

إن المرء يتعرض دائما الى مئات الشدائد والويلات في حياته، بعضها بسيطة وبعضها صعبة يمكن حلها وتجاوزها، واخرى شديدة وقوية لايستطيع مواجهتها كما هي فيتعرض الى التوتر والانهيار والحرج والقلق والاضطراب النفسي. وقد لايجد وسيلة لملاقاة التحدي والتهديد الا بالنسيان الوقتي عن طريق الكبت. الا ان الكبت كالنار المتقعدة تحت الرصاد. فالكبت ينقل الصراع النفسي الى اللاشعور ويتجاهله مؤقتا. لكن الصراع يقى في اللاشعور ويصبح عقدة دائمية، لايمكن ان تنمحي من العقل الا بالتعبير عن نفسها بطريقة  من الطريق الصحيحة. فاذا مانجحت ورجعت الى مستوى الوعي والشعور كما هي، عاد الصراع والمرض الى سابق قوته. اما اذا رجعت الى الوعي متنكرة باسلوب مغاير وبشكل آخر. فانها تكون قد ساومت وظهرت بحل جزئي يرفع عن التوتر ويلطف من الالم والقلق.

وبهذا الحل الجزئي تتمكن العقدة النفسية من التسلسل الى الشعور وتنفذ أغراضها الأصلية دون إيذاء وصراع، بل بطريق غير مباشر وهذا هو سر الحيلة النفسية أو (الخدعة النفسية)، لان الحل الوسط أو الاتفاق الجزئي يرضي الطرفين. الواقع والواجب والأخلاق من ناحية ..، والغرائز والأهواء والنزوات من الناحية الأخرى، وبالخدعة النفسة يتحول الكبت من اللاشعور الى الشعور آمنا مطمئنا مقبولا والخدعة آلية أو وسيلة لعقد اتفاق سلمي بين المقبول والمرفوض بين الشعور واللاشعور أو بين الواقع والخيال ..

 ففي عملية التبرير يقول المثل الدارج : من لايصل العنقود يدعي انه حامض. أي كلما عجز المرء عن تحقيق شيء أو فشل فيه وجد لنفسه المعاذير أو برر عجزه بحجج واهمة تخفف عليه وقع الفشل والطالب الكسول لاينتقد ذاته بل يتهم استاذه أو معلمه بشتى النواقص التي ادت الى فشله وفي عملية الاسقاط يعكس الشخص ما في جعبته من ميول ورغبات الى الخارج، مثال ذلك: صفحة المرأة، فيراها صادرة من غيره وليست منه. فاذا شك يسهم في زياد وكرهه في ضميره قلب الإسقاط اليه وجعله يرى ان بساماً هو الذي يشك فيه ويكرهه والمعلم الفاشل أو الضعيف يعكس كل ذلك على غيره من طلبة أو زملاء فيراهم يعادونه ويريدونه تحطيمه أو يريدون الايقاع به … وهي أوهام نتجت عن عملية الإسقاط..، وفي عملية الابتلاع نجد عكس ذلكـ أي ان الشخص يمتص ويأخذ من الغير صفاتهم لتكون جزءا منها وصادرة عنه. فلو ان الآخرين كانوا مذنبين وخاطئين فان الابتلاع يجعله هو المذنب ومستحق العقاب ونجد ذلك في الكآبة مثلا عندما بلوم المرء نفسه على أعمال لم يرتكبها هو ولم تحدث فعلا.

وفي حالة التسامي ، تتحول الرغبات الصارخة والميول العدائية أو المنفردة في اللاشعور الى ميول سامية طيبة ومحبوبة. فحب القتل أو الاعتداء أو الغلبة والسيطرة قد يتسامى الى التخصص في العلوم الإنسانية، كذلك الصدمات والوحدة والفشل يتسامى به الإنسان الى عمل ديني أو خيري، وفي حالة الحلم يتنقل الفرد من الواقع وميدان الكفاح والصراع الى حالة من الاسترخاء ووضع الحلول النظرية ولابتعاد المجتمع والواقع الى ان يصل درجة الذهول والعطل الاجتماعية.وفي نكران الذات، نجد ان المرء يتجاهل الوقائع أو يغمض عينيه عنها مثال ذلك : النعامة ، وهكذا نجد إن الرجل أو المرأة المحدودة الذكاء تنكر ضعفها الذهني ولاتقبل أو ترضخ للحقيقة الواقعة، وهي ان سبب رسوبها المستمر في الدراسة هو محدودية قابليتها ويمتد ذلك الى التبرير واتهام المعلمات.

وفي حالة الازاحة ، يحول الفرد عواطفه وافكاره من الهدف الاصلي والأولى الى مايشابهه الفرد الذي يحب امرأة متزوجة ويدرك ان ذلك عيباً وحراماً وخيانة، يزيح حبه للام الى حبه لاطفالها فيعطف عليهم ويتابعهم ويشجعهم وحالة التعويض، يشبه الازاحة تقريبا، فالفرد المصاب بالهزال .. ولا يستطيع البروز بالالعاب الرياضية أولا يجتذب اعجاب الزملاء والزميلات لمنظره قد يعوض عن النقص بالظهور في الدروس النظرية أو في الكتابة أو في الخطابة أو في المقدرة على العمل التجاري أو المحامات أو العمل السياسي.

وفي حالة النكوص ، يؤدي الصراع بالشخص الى التراجع نحو مراحل سابقة من الأبداع والتطور. فالطفل الذي عمره 10 سنة ويصاب بمرض جسمي شديد أو يفقد والديه يتراجع ويتصرف كطفل عمره خمس سنوات، فيزيد من دلاله واعتماده على الآخرين ويريد ان ينام بجانب الأب أو الأم أو الأخت أو الأخ، وقد يرجع الى التبول في فراشه ليلا.

وفي آلية التشكيل الرجعي، نجد عملية معقدة للخدعة النفسية  مثال ذلك : فتاة عانس ، تتمنى أن تنخطب وتتزوج، ولأنها لا تريد الاعتراف بهذه الرغبة الطبيعية، وهي تراها شيئا مخالفا للذوق والأخلاق تقوم بتجنب المجتمع الرجالي، وربما تكره تواجد الرجال وتنتقدهم، واذا صادف يوميا ان سار رجل وراءها في شارع المدينة، رجعت الى البيت لتتحدث عن تدهور الأخلاق، وكيف رجلا وسيما لاحقها ويتكلم مع نفسه محاولا اسماعها، واخيرا تخلصت منه بصعوبة دون ارد عليه، بينما كانت رغبتها الحقيقية الدفينة هي ان يلاحقها الرجال فعلا وهنا .. الامثلة كثيرة من حياتنا اليومية على هذه الخدع النفسية. أو ما نسميها بـ الآليات النفسية الدفاعية .

واقول ما ضرر هذه الوسائل؟.. الحقيقة ان جميعها مفيدة اذا كانت معتدلة لانها تحفظ التوازن النفسي وتؤدي الى اطمئنان الفرد، وعمل وانتاج يخلو من الهزات والانفعالات .

فلا ضرر ان يتحول الشخص الاعتدائي العنيف بالتسامي الى فنان شهير، ولا بأس ان تتحول المرأة الوحيدة الكئيبة بالازاحة الى فرد اجتماعي نشيط معتدل لتعوض عن وحدتها وصدماتها الخاصة، عندما تتحول الاليات النفسية الى حيل صرفة ودروع فردية وخدع واهية يؤمن بها الشخص ويتعامل عن طريقها من الناس الآخرين كالمغرور أو التائه أو الاحمق أو الارعن، الخطر كل الخطر في ما يشعر بالنقص والتفاهة فيعوض عنها بالتغطرس والتكبير والظلم والحقد. وفي ذلك الشخص المحروم من الحنان والعطف أو الاهمية فيجمع المال ويتبنى سياسة البخل والشح على غيره من افراد اسرته أو يضطهد الآخرين بالاقتراض بالفائدة، ومن ذلك الذي يعشق المتعة والوجاهة والجنس ولكنه يتظاهر بالزهد والتقشف والورع ثم ينتهز اقرب فرصة لكل شبع غرائزه.

كل انواع السلوك هذه علامات ودلالات المرض والخلل .. التي تضر بصاحبها أو بالوطن.. وخير علاج لها هي : مواجهة الذات ومكاشفتها، ولكن قليل من الناس من يتعلم المواجهة وقليل منهم من يصارح ويقول إنني افكر واعمل هكذا لأنني بالحقيقة احب واشتهي أو اكره أو أغار أو اطمع.

ولو توصل المرء الى هذا المستوى من المواجهة الحقيقية والنضج الفكري الصريح، لأصبح حكيما ومربيا صالحا وامتلك بصيرة ثاقبة تجعل من سيرة حياته نموذجا للهدوء والراحة والتوفيق.

الا ان قليلاً من الناس في المجتمع من يعترف في معبد الذات.. أو يواجه نفسه في مرآة النفس. قلما يتجرأ ويعترف كهل مع نفسه انه يتصابى ويتظاهر بالشباب والحيوية لجلب انظار البنات وقلما تعترف فتاة بانها تغار من زميلاتها لانها ليست جميلة مثلهن. ويعزي ذلك بالطبع الى ان ما يدور من أليات نفسيه يختفي ويتستر وراء اللاشعور في العقل الباطن. وفي التربية والتعليم علينا ان نشجع المواجهة مع الذات فهي الطريق الأسلم والأصح في المصارحة والصدق والعطف والعلاقات الخالية من التعقيد والقسوة والأمر والنهي.

فالإنسان المثالي هو من صنع الأب أو المدرس أو المربي المثالي والأستاذ الذي يتجنب خداع الذات هو الذي ينجح في خلق جيل حي نقي تقي لايخدع ذاته، ومن هنا تتضح صفات المربي والأستاذ والمعلم الناجح، الصفات التي ملخصها: ان يعرف المعلم أو المربي نفسه واتجاهاته ونزواته ودوافعه لكي يعرف ايا منها يحب ان يكبح جماحها واي منها يفيد في توجيه وتربية وإعداد الجيل الجديد، منذ الطفولة المبكرة()، وبذلك نتخلص من شوائب العوامل الفردية والشخصية التي تربط وتحرف المنهج السليم في التربية والتعليم.

الحاشية

-د. علي الامير، الجنس بين الفلسفة والفسلجة ج2، دار الشؤون العامة ص8