من الصعب على المراقب المحايد المستقل إغفال حقيقة أن خيوط اللعبة السياسية في الوضع العراقي المتشابك الحالي هي تحت السيطرة الكاملة لإحدى السفارتين القويتين الحاكمتين في بلاد الرافدين، وأن كل ما يجري من صراعات ومناكفات وخلافات واشتباكات، داخل المنطقة الخضراء، وخارجها، بما فيها المناوشات الدائرة بين داعش والحشد الشعبي والبيش مركة وجيوش الأحزاب السنية، ومسرحيات تحرير الموصل والفلوجة والأنبار، مرسومٌ بحنكة، ومطلوبٌ وضروري لإبقاء العراق في حالة الفوضى الضامنة لاستمرار حاجة نصف الشعب العراقي إلى الحماية الأمريكية، وحاجة نصفه الآخر إلى الحماية الإيرانية، إلى أمد قادم طويل. والثابت أن (الحكومات) التي تعاقبت في العراق، من عام 2003 وإلى اليوم، و(معارضاتها) أيضا، كانت مصنوعة، هي الأخرى، في هذه السفارة أو تلك من السفارتين، بالتراضي أحيانا، وبالتنافس والتقاطع أحيانا أخرى. ولأن الشارع الشعبي العراقي المحتقن بدأ يتململ ويمتليء بمعارضين وطنيين مستقلين لا تحبهم أمريكا ولا ترعاهم إيران، لا يرضون بترقيع العملية السياسية الفاشلة بل بقلبها وقلب أصحابها، كلهم، من الجذور واسترجاع الدولة المغتصبة، فقد أصبح لزاما على دوائر القرار الحقيقي تمزيقُ جماهيرالشارع الغاضبة وردعها وإسكاتها، بكل الوسائل المتاحة. بالاختراق، فإن لم ينفع فبمحاصرتها وإغلاق الطرق والجسور المؤدية إلى ساحة التحرير والمنطقة الخضراء، فإن لم ترتدع فبالرصاص المطاط والحي، فإن لم تتعض فباقتحامها وإغراقها بجيوش أحزاب السلطة وكتلها البرلمانية وأجهزة أمنها وجيوشها. ألم يتزعم نواب دولة قانون نوري المالكي ونواب المجلس الأعلى اعتصام النواب في البرلمان ويطالبوا بإقالة المسؤولين الفاسدين؟ وألم يندفع الصدريون لركوب الشارع المنتفض وإخلائه من متظاهريه المستقلين واليساريين والعلمانيين؟ وألم يتم تُجييرُ المطالبة بالتغيير والإصلاح، أخيرا، لحساب مقتدى وجماهيره المنفلتة الغوغاء؟. ولا يمكن إهمال الدوافع الشخصية الأخرى التي تجعل مقتدى ينتفض وبهذه القوة والحماس. فثاراته القديمة المؤجلة من نوري المالكي وعمار الحكيم لم تمت ولن تموت. وحين يطالب المالكي، علنا، بطرد الصدريين من العملية السياسية، وحين يعلن عمار الحكيم أن هجوم الصدريين على البرلمان عدوان على الشرعية، وحين يتوعد واثق البطاط مقتدى وأتباعه بسوء الحساب، ألا يصبح من تحصيل الحاصل أن يغضب مقتدى على (إشقائه) ويهاجمهم في عقر دارهم، ويرغمهم على احترام وجوده، وتأمين حصصه في الوليمة؟ وأل يجعل خصومه ينفرون بقوى أمنهم وجيوشهم لتركيعه وإعاداته إلى البيت الشيعي أصغر مما كان؟. وإلا فمن يستطيع أن يتخيل أن السفارة الإيرانية لا تملك الوسائل العاجلة الرادعة القادرة على لجم مقتدى وأتباعه برمشة عين لو أنها رأت في اعتصاماتهم واقتحاماتهم لمكتب رئيس الوزراء والبرلمان خطرا حقيقيا وجديا على سلطتها، وعلى وكلائها وجواسيسها في العراق؟. ثم ألم يعلن مقتدى بعظمة لسانه أن شركاءه الحكام (الفاسدين) يريدون تطبيق الإصلاحات على تياره وحده، فيطردون وزراءه ووكلاء وزاراته ومدراءه العامين، ولا يمسون وزراء تيارٍ غيره، ولا مدراء كتلة أخرى؟. وعليه فإن ما جرى ويجري في بغداد هذه الأيام ليس سوى شجار داخلي بين أبناء الأسرة الحاكمة الفاسدة الواحدة، لا يدفع ثمنه الباهض من أمنه وحريته وكرامته الشعب العر اقي الأسير. ألم يكن للسيد مقتدى في حكومات الفساد التي قادها حزب الدعوة والمجلس الأعلى ومنظمة بدر خمس وزارات، وعدد كبير من المؤسسات الخدمية والمالية الحيوية العديدة الأخرى؟ وألم يطلق فيها لأتباعه العنان في الكسب غير المشروع والتطاول على المواطنين، واستغلالهم وسرقة قوتهن وقوت عيالهم، طيلة سنوات؟ ألم يولد فيها ويترعرع واحدٌ نكرة كبهاء الأعرجي، ثم يصبح نائبا، ثم رئيسا للجنة النزاهة في البرلمان، ثم نائبا لرئيس الوزراء، ثم يتبين للسيد مقتدى، أخيرا، أنه كان طيلة السنوات الماضية، فاسدا ومختلسا، فيأمره بالاستقالة، ويحتجزه لديه؟ تخيلوا وطنا يقوده مقتدى، ويُسير شؤونه السياسية والاقتصادية والعسكرية والمالية أتباعُه الذين يُقبلون إطارات سيارته ويرتكبون، لإرضائه وتطييب خاطره، جرائمَ قتل وحرق ونهب وتخريب وانتقام. ثم من قال إن استبدال جاهل بجاهل، وخادم سفارة أجنبية بخادم سفارة أجنبية أخرى هو التنغيير الذي تظاهر من أجله وطالب به العراقيون؟ ففي مقاييس الوطنية والكرامة والنزاهة جميع الذين أكلوا المال الحرام، واغتصبوا، واعتقلوا، وهربوا، وزوَّروا، وأحتالوا على القضاء، سواء. لا فرق بين عملاء وعملاء، أميين وأميين، مزورين ومزورين، جاهلين وجاهلين، ولا بين رعاع ورعاع. ومهزلة المهازل أن يتحول مقتدى الصدر إلى شارل ديغول أو نيلسون مانديلا العراق، وأن يصبح زعيم التغيير والإصلاح والثورة على الظلم والفساد. والمحزن، حقيقةً، أن يسكت الشعب العراقي المخدوع والمنتهك والمرتهن عن هذا الانحطاط القيمي الأخلاقي، وألا يهبَّ حاملا ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل لوقف هذه المسخرة السخيفة، فيلقي القبض على هؤلاء الفوضويين العصاة، ويقتص من كل من له ضلع، من قريب أو بعيد، في تخريب أو تهريب أو تزوير أو قتل واختلاس، من أيام اغتيال عبد المجيد الخوئي في النجف، وجرائم التطهير الطائفي الشنيع التي تزعمها جيش المهدي، والتي لا يمكن أن يمحوها تقادم الزمن، ولا استبدالُ أقنعة بأقنعة، ووجوه بوجوه، وأصوات بأصوات، وشعارات بشعارات. والتفجيرات التي تعاقبت في مدينة الصدر، مؤخرا، وتساقط فيها العشرات من الأبرياء، ليس مستبعدا أن تكون جزءً من حروب تكسير العظام بين مقتدى وبين إخوته الأعداء في البيت الشيعي. أما اتهام داعش بتدبيرها فلا دليل على أنها ليست من تدبير مليشيا أو حزب أو كتلة أعلن الصدريون مرارا عن عزمهم على الانتقام من زعمائها الكبار. وحين تصمت داعش عن اتهامها بتدبير جميع تلك التفجيرات فذلك أمر متوقع وطبيعي. فحماقة منها أن تنفي عن نفسها مثل هذه التهمة وترفض هبة من هذا النوع، ودعاية مجانية بهذ الحجم يتبرع لها آخرون، خصوصا في مواسم هزائمها الأخيرة. إنه لأمرٌ مريب.
|