هل يلوم العراقيون أنفسهم؟

 

هنالك الكثير من اللوم في العراق، ربما أكثر من المعتاد، ولو وضعت قائمة لكان العراق أكثر دول العالم لوماً، وحتى لا يساء فهمي، فأنا لست ضد اللوم، بل أنا أدعو إليه وبشدة، ويكفي للاستدلال على أهمية اللوم، بل وحتى قدسيته، أن الله عز وجل أقسم بالنفس اللوامة.
من يلوم العراقيون؟ الكل يلوم الكل، وهم لا يكلون ولا يملون من اللوم، وكل نهار يتراشقون باللوم، عندما يجتمعون سوية يتلاومون، وحتى في الولائم يرشون رذاذ كلمات اللوم على طعامهم قبل الملح والبهارات، ولا يستنفذ النهار كل كلمات لومهم فيبدأون يومهم التالي باللوم حتى قبل التحايا الصباحية.
يلوم العراقي الجميع إلا نفسه، منهم قريب لي، كلما واجهته ضائقة رفع عينيه إلى السماء ملقياً باللوم على خالقه، فهو في ذلك على مذهب الجبرية، أو على الأقل في ما يصيبه من بلاء، ويدعي لنفسه بكل خير يمسه، على شاكلة قارون: إنما أوتيته على علم من عندي، أما أن يلوم نفسه فألف لا.
للغرباء نصيب وافر من لومنا، البعيدون والقريبون منهم، وكلهم يتدخلون في شؤوننا، ويمكرون بنا، ويتعدون على حقوقنا، يلومهم أعلى الناس سلطة في البلاد، وكذلك أقلهم تأثيراً من العباد، وكأنهم اناس عاجزون، وعن رد الفعل مشلولون، وهم في ذلك مصيبون، إذ اليوم العراق أرض سائبة مشاعة، يرتع فيها الأجانب، من دول وفئات عرقية متنوعة ومنظمات إرهابية مختلفة.
ينحي العراقيون باللوم على مجتمعهم، وإن اختلفوا في تحديد جوانبه الملامة، وما أكثر لائمي القبلية، قبل وبعد المرحوم علي الوردي، ولو تفحصوا أنفسهم، ولا حاجة لطبيب نفسي، لتبينوا أن القبلية كامنة ومستقرة في نفوسهم أجمعين، بل هي أقرب إليهم من الوتين، تبرز كلما استفزوا، فكراً متصلباً ومتقوقعاً، لا يطيق الاختلاف في الرأي، وسلوكاً متشنجاً، تضع الوضيع منهم في مصاف فرعون، فلا مكانة ولا احترام إلا للأقوى والأعلى صوتاً والأكثر وقاحة.
ينحى المتدينون باللائمة على العلمانيين، وكأن البلاد خلت إلا من علمانيين، فما من نقيصة أو فشل في تاريخ العراق إلا ومن وراءه علماني، ويرد عليهم العلمانيون بالمثل، وكأن كل الناس متدينون، أو أن كل من ادعى التدين كان تدينه صحيحاً، وفي الواقع لا يوجد في العراق تدين محض ولا علمانية حقة، وإنما نفوس مضطربة بالشك والحيرة القلق والتوجس والخرافة إلى درجة تمنعها من التفكير السوي، وتقودها للتخبط في السلوك، ولكنهم بالطبع ينكرون ذلك.
كل فئة عرقية في العراق تلوم الاخريات، فالعرب يحملون الأكراد والتركمان وغيرهم المسؤولية عن خراب العراق، لكونهم لا ينفكون عن المطالبة بالاستقلال عنه، وكأن عرب العراق جرب، لا يطيقون البقاء بجانبهم لحظة واحدة، لئلا تصيبهم العدوى، ويتناسى العرب بأنهم أصحاب القوة والقرار، ولو أحسنوا التعامل مع غيرهم من الأعراق لما تمنوا الفراق، والأكراد بدورهم يلومون العرب، ويتهمونهم بالتسبب بكل مصائبهم، حتى غدا العرب لدى الكرد شياطين الانس، فهم يتهمون العرب بحرمانهم من حقهم في تكوين دولتهم المستقلة، ويتناسون أن الدول الاستعمارية السابقة التي يلوذ الكورد بحماها اليوم قسمت المنطقة وفقاً لمصالحها، وبأن الكورد وعلى مدى عقود شاغلوا العرب بالتمرد والقتال.
ما بين السنة والشيعة في العراق أكثر بكثير من تبادل اللوم، وما قولهم نحن أخوة إلا الإنكار، أو هي أخوة قابيل وأخوه، ما بينهما خلاف مستفحل، بين قبيلتي الشيعة والسنة، كما عبس وذبيان، أو تغلب وشيبان، في سالف العصر والزمان، والدين منه بريء، ولو تحلى الطرفان بقيم وأخلاق الإسلام، لما حدث خلاف، ولساد الوئام بينهما، لكنهما وحتى ذلك الحين، إن حدث ذلك، سيستمران في تبادل اللوم وجارح الكلام، وأحياناً أسوء من ذلك بكثير.
أتمنى لو يفيق العراقيون يوماً، ليضعوا التلاوم بينهم ولوم الغير على قائمة المحظورات، مع المخدرات والظلم وغصب الحقوق، ليتفرغوا للوم أنفسهم، وتشخيص نواقصها، وتقصي عيوبها ومثالبها، ثم يعمدون لتهذيبها.