المستشار مؤتمن

 

كانت الاستشارة وما زالت خير صديق للإنسان وفضلاً عن كونها كوة يطل  منها المحتار والمتردد على آفاق رحبة من عقول اخرى ترفد عقله وتصحح مسيره وتشير اليه بالإصبع الى درب سوي لاحب ربما غفل عنه هو في خضم دواره أو ربما نسيه في خضم حيرته واضطرابه فإنها تحصد له ثمرات الأفكار من بنوك عقول يُحسن الظن بها ويضع ثقته فيها . وقد قال أهلونا (شاور المجنون ولا تأخذ برأيه) وإني لأرى برأيي المتواضع البسيط إن الاستشارة محبذة في مواضع كثيرة إن لم يكن في كل المواضع . فأحيانا حينما يكون الفكر متعباً متردداً أخذ منه الإجهاد كل مأخذ نرى المرء يحاور نفسه بصوت عالٍ هذا إن لم يكن أحد بجنبه ليستشيره لشدة حاجة المرء أن يسمع ما يفكر فيه ويتعرف على صداه في نفسه وكذلك في نفوس الآخرين . فكأن الأمر بذلك يبسط له على بساط الوضوح والإبانة ، وحتماً على المستشار أن يخلص النية والنصيحة لمن استشاره فيفكر معه بعمق وإخلاص جهد إمكانه ويقلب الأمر على وجوهه المتعددة والمختلفة ويعيره من الاهتمام الكثير الكثير كما مَحضَه الآخر أي المستشير الثقة الكاملة وهو يطلب رأيه ويسأله النصيحة ، ثم يوصل له بعد ذلك خلاصة ما استقر عليه فكره ويمنحه زبدة ما رست عليه أساطيله المبحرة في عباب القضية . غير إن أحداً لم يعد يحفل بالاستشارة ولا يؤمن بها في زمننا هذا فكل يرى نفسه بطلاً لا يشق له غبار في كل ساحة وميدان وفرداً لا مثيل له بين الفرسان ، حتى إن من يستشير الآخرين يرمى بالضعف والجهل وقلة الاضطلاع بمادته وخامته ونقص خبرته وعلمه بما بين يديه وما خلفه وذلك باطل بدليل قوله تعالى ” وأمرهم شورى بينهم ” وإن كان قوله تعالى يرمي الى حالة خاصة فلا يعني ذلك اقتصاره عليها . بل العكس هو الصحيح فنرى أن تطبق بكل المجالات فلا خسران لمن يطلب رأي غيره قبل أن يقرر ما يريد ويصمم ويعزم فيسعى جاهداً لنيل مراده . ولولا ثقة المرء بالمستشار ما سعى اليه حثيثاً لاستطلاع رأيه ونيل نصيحته ، فلا ريب إنه يرى فيه كفأ له ونظيراً و مساوياً بل يراه أعلى كعباً وأرسخ حجة وأمضى فكراً ولكن المستشار قد لا يكون كذلك فعلاً في دخيلته وحقيقته بل قد يكون ضعيف الرأي متهافت الأفكار لذا يستغرب من المستشير إنه توجه اليه لأخذ رأيه ، وهنا فإن ضعف ثقته بنفسه تنعكس على من استشاره فيظنه ضعيفاً هو الآخر ، فينظر اليه نظرة استعلاء وفوقية ويحكم على رأيه باستهانة ويحسبه فاشلاً وضعيفاً،  وما هو كذلك … بل الضعيف هو من يخاف أن ينشر صوره العقلية وبنات أفكاره أو يضع لبناته الطازجة الاوائل بيد الآخرين وتحت أنظارهم وعقولهم ليحكموا عليها … يخاف أن يعرّضها للنور … للشمس … للتمحيص … وللهواء الطلق … ولبيان الرأي … وللحكم… المسبق .