عشر سنوات على إسقاط الدكتاتورية الغاشمة... كيف تغير العراق؟

 

حين يحاول الباحث المحايد الإيجابي أن يتابع حصاد فترة عشرة أعوام من تاريخ العراق في أعقاب إسقاط النظام عبر الحرب الخارجية سيجد نفسه أمام  مجموعة من النتائج والعواقب المتناقضة, أي من النتائج الإيجابية والعواقب السلبية التي تسببت بها حروب العراق العديدة الداخلية منها والخارجية. وازدادت اللوحة قتامة والعواقب أكثر إساءة للمجتمع وتطوره إذ كانت لدى منفذ الحرب عوامل وأهداف إضافية غير عقلانية سعى إلى تحقيقها بعيداً عن الوعود التي قطعها للشعب والقوى السياسية التي وافقت على خوض الدول المتحالفة الحرب خارج نطاق قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. وقد أصبحت تلك الأهداف معروفة للشعب العراقي وشعوب العالم كلها. ولهذا, وخلال الفترة المنصرمة, تداخلت الجوانب الإيجابية في الخلاص من الدكتاتورية البعثية الغاشمة بالعواقب السلبية, مثل نظام المحاصصة الطائفي والإرهاب والفساد والتمييز وتراجع الحريات العامة وحقوق الإنسان والمرأة على نحو خاص, في لوحة شديدة التعقيد والتشابك المتفاعل والمتبادل التأثير والدافعة في المحصلة النهائية إلى اتجاه محدد غير مضمون العواقب في التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي, إضافة إلى الاتجاهات الأمنية والعسكرية والعلاقات الخارجية.

امتلكت الإدارة الأمريكية إرادة الحرب وإسقاط النظام وإدارة العراق بواسطة قواتها العسكرية وإدارتها المدنية وإبقاء القوى السياسية العراقية المعارضة احتياطي لها من خلال فرض الاحتلال على البلاد بعد الحرب, وكانت تريد الوصول إلى تلك الغايات دون أن تفكر بما سيكون عليه موقف المجتمع والقوى السياسية, وبالتالي لم تضع مخططاً عقلانيا لإدارة البلاد وحمايتها بعد الإسقاط, كما لم تضع أسس عقلانية لتنظيم الدولة بعد تدمير الدولة ومؤسساتها وأجهزتها العسكرية والمدنية, إضافة إلى إنها لم تسلم مقاليد الحكم مباشرة بيد قوى المعارضة لمنع وقوع فراغ قاتل في البلاد كما حصل فعلياً. ونتيجة لكل ذلك برزت ابتداءً, كما كان منتظراً, عدة عواقب شديدة الأثر السلبي على مستقبل العراق, رغم الترحيب الشعبي العام بالإطاحة بالنظام الدكتاتوري والاستقبال الطيب للقوى العسكرية التي دخلت البلاد:

•1. حصول فراغ سياسي وإداري كاملين في البلاد تسببا في نشوء فوضى عارمة ونهب وسلب لمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية الفارغة من موظفيها وعسكرييها وكذلك البنوك ودور مسؤولي الحكم السابقين.

•2. ترك المناطق الحدودية دون رقابة فولج منها الإرهابيون وأتباع القاعدة بتوجيه من قيادتهم في الخارج.

•3. توفر إمكانية هروب الكثير من قادة النظام من العسكريين والمدنيين إلى خارج البلاد.

•4. بدء عمليات انتقام واسعة ضد جمهرة من البعثيين من غير القتلة والمجرمين دون محاكمات شرعية وعادلة.

•5. عجز المعارضة العراقية عن إعادة تنظيم صفوفها بصورة سليمة والتوحد وراء أهداف محددة, بل بدأ كل منها يسعى إلى تأمين مصالحه على حساب المصلحة العامة ومواجهة الوضع الجديد على أسس عقلانية.

•6. ومما زاد في الطين بلة تعيين الحاكم بأمره بول بريمر لإدارة البلاد مدنياً وتوجهه صوب تشكيل مجلس الحكم الانتقالي على أسس طائفية وأثنية مناهضة لمبدأ المواطنة العراقية, وتشكيل أكثرية شيعية فيه, دون اعتماد مبدأ المواطنة ثم فرض الاحتلال على البلاد رسمياً استناداً إلى قرار مجحف صادر عن مجلس الأمن الدولي بطلب من الولايات المتحدة ورفضه الشعب العراقي وقواه السياسية. وقد أشعر هذا الموقف السنة بالضعف وكأنها المسؤولة عن جرائم نظام عنصري فاشي دموي, وخلق الأرضية الصالحة للصراع الطائفي لا على مستوى الأحزاب الإسلامية السياسية فحسب, بل وعلى مستوى المجتمع.

•7. ترك الوضع الجديد جمهرة غفيرة من الموظفين والعسكريين دون رواتب أو بدنانير لا تغني ولا تسمن, مما دفع الكثير منهم إلى التوسل بأي وسيلة تساعدهم على العيش وتوفير الغذاء لعائلاتهم. وهي التي ساعدت على كسب قوى غير قليلة لجانب القوى المناهضة للوضع الجديد.

•8. لقد كان الوضع في فترة صدام حسين فاسداً جداً من الناحيتين المالية والإدارية, ولكنه اشتد وتعمق بعد سقوط النظام وبممارسات من جانب بول بريمر وسلطة الاحتلال وجمهرة من السياسيين العراقيين الذين وجدوا فرصة مناسبة للنهب والسلب على نطاق واسع, وهي الحالة التي ما تزال متواصلة ومتفاقمة حتى اليوم.

وفرت هذه الحالة أوضاعاً جديدة من خلال:

- بدء الجماعات البعثية الهاربة بإعادة تنظيم صفوفها وامتلاك السلاح المنهوب لمواجهة الوضع الجديد على وفق خطط وضعها صدام وأتباعه سلفاً.

- بدأت قوى القاعدة التي توفر لها السلاح بتنظيم صفوفها بشكل واسع والتأثير على مناطق بعينها لكسبها إلى جانبها وتنظيم ما أطلق عليه بالمعارضة المسلحة, كما بدأ أول تلك التحالفات بين القوى المضادة في مواجهة الوضع الجديد. كما توفرت البنية التحتية الضرورية لإرهاب المجتمع بشكل جدي وواسع وابتزاز الناس.

- بدء العمليات العسكرية ضد القوى السياسية المحلية وضد القوات الأجنبية ومن أجل تشديد التمايز والاصطفاف الطائفي.

- وفي ذات الوقت نشأت ميليشيات مسلحة وطائفية تابعة للأحزاب الإسلامية السياسية, الشيعية منها والسنية, التي مارست عمليات انتقامية متبادلة أصبح الشعب ضحيتها.

لقد أسقطت الحرب النظام, ولكنها لم تكسب السلام للمجتمع, بل جلبت معها الفوضى والخراب والموت على نطاق واسع. لقد وفر الوضع الجديد حرية الكلام والنشر, ولكنه وفر معه إمكانية وحرية قتل الناقد والمتكلم. وإذا كان الخوف سابقاً من النظام البعثي الحاكم بأجهزته القمعية, أصبحت الخشية بعد السقوط من قتلة كثيرين غير مشخصين خارج قوى الحكم ومنها. كما إن احتمالات تحول الصراعات الراهنة إلى نزاعات مسلحة طائفية ما تزال غير مستبعدة تماماً من قاموس بعض جماعات سياسية وطائفية في الحكم وخارجه. وإذ كان الوضع في إقليم كردستان العراق مستقراً وآمناً قبل إسقاط النظام ومنذ انسحاب قواته وإدارته منها, فإن الوضع الأمن والمستقر قد استمر بعد إسقاطه أيضاً وتوفرت له فرصة مواصلة تغيير وجه الإقليم عمرانيا واجتماعياً, في ما عجز حكام بغداد القيام بذلك في المناطق العربية من العراق حتى الآن. وإذا كانت العلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بدأت بصورة أولية غير متوترة, فإنها تشهد اليوم توتراً كبيراً ومخاطر تعقيدات إضافية في هذه العلاقات لا بسبب حداثة التجربة وعدم وجود خبرة ونقص في القوانين التي تحكم هذه العلاقة وضبابية بنود في الدستور فحسب, بل بسبب سياسات الحكومة الاتحادية التي لا تريد معالجة المشكلات القائمة على وفق بنود الدستور, ومنها مشكلة ما يطلق عليها اليوم بالمناطق المتنازع عليها, أو بشأن عدم دفع رواتب البيشمركة الكردستانية كجزء من القوات المسلحة العراقية ...الخ, وردود الفعل الكردستانية على تلك السياسات.

ما هي حصيلة الأعوام العشرة المنصرمة؟

من الناحية الإيجابية يمكن الحديث عن خلاص العراق من دكتاتورية غاشمة لم يشهد مثلها تاريخ العراق الحديث ولا دول منطقة الشرق الأوسط من حيث وحشيته وذهنيته العنصرية والعسكرية الفاشية وأطماعه التوسعية ورغبته في حل المشكلات بالقوة العسكرية الغاشمة محلياً وإقليمياً أولاً. كما يمكن الإشارة إلى تحسن أوضاع استخراج وتصدير النفط مما فسح في المجال إلى زيادة عائدات العراق من موارد النفط الخام المصدر سنوياً ثانياً. كما يمكن الإشارة إلى تحسن مستوى حياة ومعيشة بعض فئات المجتمع وليس كلها, إضافة إلى وجود مؤسسات وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني وانتخابات عامة, رغم إن أغلبها في الغالب الأعم شكلية ولا تعمل على وفق مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

هذه الجوانب الإيجابية عليها تحفظات كثيرة بارزة للعيان. فإذا كانت الدكتاتورية البعثية الصدامية قد أُسقطت بفعل العامل الخارجي, فإن أرضية نشوء دكتاتورية جديدة لحزب وفرد حاكم ما زالت قائمة, وها نحن نشهد ظهورها بوضوح كبير ومخاطر متفاقمة يوماً بعد آخر. وإذا كان النفط قد تحسن وضعه, فإن العقود الكثيرة التي وقعت على دفعات لم تكن كلها في صالح العراق وغير ضرورية ومؤثرة سلباً على حقول النفط ذاته وعلى سوق النفط وأسعاره وعلى قدرات العراق تحمل أعباء تلك العقود, إضافة إلى عدم إقرار قانون النفط حتى الآن ونشوء مشاكل جديدة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بشأن عقود النفط الكردستانية. كما إن مؤسسات الدولة ليست مؤسسات حرة وديمقراطية بالمعنى الصحيح لأنها كلها قائمة على قاعدة المحاصصة الطائفية السياسية اللعينة التي قسمت الشعب العراقي إلى طوائف وملل مدمرة وليست جامعة. وتقوم الكثير من الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني على أساس ديني ومذهبي يتعارض تماماً مع قواعد وأسس المجتمع المدني واعتبار "الدين لله والوطن للجميع".

خلال السنوات العشر المنصرمة لم يعرف العراق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وتغيير في واقع البيئة المتدهورة, بسبب غياب الرؤية الاقتصادية والاجتماعية لما يفترض أن ينشأ بالعراق, غياب الإستراتيجية التنموية والخطط العقلانية القابلة للتنفيذ, واستمرار البطالة المكشوفة واتساع البطاقة المقنعة بحيث أصبحت تتراوح بين 60%-70% من إجمالي موظفي الدولة, وكذلك استمرار وجود ما يقرب من 25% من الناس الذين يعيشون تحت خط الفقر المعرف دولياً لبلدان مثل العراق. وظاهرة الفساد تفاقمت حتى أكثر بكثير مما كانت عليه في عهد الدكتاتور السابق بفضل سياسات المستبد الجديد بأمره والمحيطين به وتحولت إلى نظام معمول به ومعترف به عملياً. وإذ كان الإرهاب شديداً في الأعوام التي تلت سقوط الدكتاتورية وتراجع في عامي 2009 و2010 نسبياً, فإنه ومنذ ثلاث سنوات في تفاقم شديد وخاصة في هذا العام 2013.

كلنا يدرك بأن الحكم الطائفي السياسي والفساد المالي والإداري والحزبي وغياب الحلول السياسية واعتماد الحلول الأمنية العسكرية وتفاقم الفردية في الحكم هي من العوامل المحفزة للإرهاب وحصول سيول من الدم والدموع في البلاد. وليس هناك من أفق للخلاص من ذلك!

إن البلاد, وبعد مرور عشر سنوات, تفقد يومياً وساعة بعد أخرى الحرية والحياة الديمقراطية والتجاوز على حقوق الإنسان وفقدان القضاء والهيئات المستقلة دستورياً لاستقلالها وخضوعها للحاكم الفرد وحزبه, الذي يحل يوماً بعد آخر محل حزب البعث في سلوكه العام وهيمنته, وهي تنذر بكارثة محدقة. لقد جرى اعتداء على صحف أربعة وعلى مقر حزب الأمة, كما جرى قبل ذاك اعتداء أثم على البنك المركزي والطاقم المخلص العامل فيه من قبل رئيس الحكومة وتجاوز على المفوضية المستقلة للانتخابات, وعلى حقوق المرأة وحريتها وهدم منظم لأسس الديمقراطية المنشودة حين قال رئيس الحكومة الحالي بأنه أخذ الحكم ولن يعطيه لغيره بعد اليوم, وهو مماثل تماماً لما قاله صدام حسين يوم ذاك بأنه جاء ليبقى!! وعدا ذلك فالإرهاب يخطف كل يوم عشرات الناس والفساد يسرق الملايين والمليارات!

إن مهمة المجتمع اليوم أن تمنع تحول العراق إلى الدكتاتورية, رغم وجود الأرضية الصالحة لذلك, وهي مهمة القوى الديمقراطية وسائر المخلصين لهذا الشعب ومن عانى من الدكتاتورية الغاشمة السابقة. إنها النداء الذي يسبق وقوع الكارثة, إن ما يجري في العراق يمثل رياحاً صفراء تسبق العاصفة التي يفترض أن نبعدها عن أرض وشعب العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه وقواه الوطنية الأمينة لشعبها.