المُلاَءَةُ البيضاء |
رغم اني لا اعرف مساحة وطني الا ان الرجل الذي يشاركني بيتي وسريري يقول كلما اوى اليّ ان سريرنا بسعة الوطن .. وحين اسأله عن نكهة الوطن يقول تشبه عطرك وأنت تنضحين حبا وعرقا .. تشبه رائحة خبز امي حين يخرج من تنور الطين ، تشبه رائحة طفلِ رضيعِ يقبض بأصابعه الصغيرة على إصبع الحياة ، لذا لم اعرف الوطن الا بلون ابيض او زهري كلون مُلاَءَات سريري ، وبعطر جسد الرجل الذي يفتح لي كل صباح نافذة تقف على شرفاتها العصافير وتنكسر على زجاجها أشعة الشمس ليحتل النور عالمي . عالمي صغير جدا ، لا يبتعد عن هذا الانسان الذي يتقاسم معي رحلة العمر ، لكنه يحرص ان لا اخرج كثيرا ، حتى قنوات التلفزيون اقفل معظمها وترك لي القنوات التي تعرض كل ما هو ممتع او مضحك مثل القنوات الكوميدية وقنوات الافلام الكارتونية ، يعود دوما محملا بابتسامته المتعبة ، فأستقبله بعناق و رشفة من شفتيه. لكنه هذه الليلة قدم بابتسامة شاحبة وملامح باهتة .. لم اسأله عن الأخبار التي رمت بها إلى مسامعي جارتنا عن الموت والخراب والدماء في بلادنا ، اذكر أني سألته مرة فأمسك بيدي وأودع باطن كفي قبلة رقيقة ورأيته يهمس لعيني ( لا تصدقي كل ما يقال ) البعض يبالغ ليس اكثر . و انا أصدقه كما يصدق طفل أن الحياة غدا أجمل ، مثل جمال وجهه وهو يسألني ان يتوسد الليلة ذراعي ، مددتها إليه بكامل فرحي ورحت ارقبه وهو يذهب مني الى مملكة أخرى . واتأمل وجهه الذي أراه تارة لرجل بلغ من العمر عتيا ، وتارة لطفلٍ ينظر لكرة قدمه التي شقها احدهم . النعاس بدا يراودني ، وذراعي الممدودة تحت رأسه يأكلها الخدر ،هباء ذهبت محاولاتي بسحبها ومحاولاتي في إيقاظه ، الخدر بدأ يتسلل الى كتفي ومعها بدأت تضيق أنفاسي ، شعرتُ اني اختنق فصرختُ كثيرا ليستيقظ دون جدوى ، دفعته بيدي الطليقة واستعنت بقدمي حتى سقط عن السرير ، نسيته وانا أدلك ذراعي حتى بدأ الخدر يغادرها ، لا اعلم كيف سرقني النوم دون ان انهض لأرى ما حلّ به ، لكن الضجيج في الغرفة أفزعني وجعلني استوي جالسة في سريري لأرى وجوها كثيرة تغدو وتروح بين جدران عالمي ، لويت جسدي وأنا أحاول ان أرى الرجل الذي كان بجانبي ثم افترش الأرض ، كان متشظيا كجسدِ من فخار لم يبق منه إلا القليل ( أين ذهب معظمه ؟؟ ) سألت نفسي . عدت ، وانا اسحب الغطاء لأستر جسدي ، أرقب هذه الوجوه التي لا تنظر اليّ كأني لست هنا ، نسوة مضغ الحزن أعمارهن ينتحبن في ركن من أركان غرفتي ، رجال بأعمار مختلفة تتيه نظراتهم في البعيد كأنهم يبصرون شبحا قادما إليهم بكامل شره ، وأطفال يمسكون بمُلاَءَة سريري البيضاء التي ابتعتها نهار هذا اليوم ، يحاولون تسلقها للصعود اليّ كأنهم يهربون من موت حتمي ، وعبثا اصرخ بهم ليبتعدوا. عدت الى بقايا رجلي .. لم يبق منه إلا شفتاه الشاحبتان بقبلتهما الدافئة .. تخطّفتهما من الأرض و خبّأتهما تحت وسادتي ثم استلقيت كأني كائن غريب ، دون خوف دون شعور دون اهتمام ، سمعت صوته يهمس من تحت الوسادة (أغمضي عينيك ، الأمور بخير لا تقلقي) هكذا سرقني النوم حتى أفقت تحت إحساس بثقل كبير على ذراعي ذاتها ، والخدر يتسلل منها الى جسدي ، حين فتحت عيني كانت المخلوقات قد تسلقت السرير وتوسدت ذراعي ، ومن تحت جسدي تمر ينابيع دمِ ساخنة تصبغ مُلاَءَةَ سريري باللون الأحمر . |