(2) تطرقنا في العدد (1) السابق الى حديث الرسول الأعظم (ص) : "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" ، وحاولنا اثبات ان الاحتكار الإداري له نفس المقدمات ويترك نفس الاثار المترتبة على الاحتكار الاقتصادي وبذلك يكون المحتكر الإداري ملعون على لسان سيد الخلق أجمعين، فاتعظوا أيها الإسلاميون السياسيون في عراقنا الجريح . تعتقد الأحزاب السياسية ان وزرائها ومسؤوليها ناجحين وبارعين لمجرد انهم يتواجدون في وزاراتهم ويقومون بتمشية البريد اليومي، وبما ان ثقافة الاحتكار قائمة فأن أطنان الورق التي يوقعونها في سنوات تسنمهم مهام الوزارات هي المؤشر الأفضل لديهم للحكم على نجاحهم من عدمه، وهذه هي الطامة، عندما تكون النخب السياسية غير واعية لمهام وزرائها وما المطلوب منهم، ويتعاملون معهم على انهم ناجحين ويصرون على تكرارهم مرةً بعد أخرى سواء في نفس الوزارة او في وزارات أخرى تحتاج الى عبقريتهم الفذّة. أيها الساسة، أيها المسؤولون، ليس الحكمة في تمشية البريد ، الحكمة في قيادة مبادرات إصلاحية في المؤسسات، فنحن ورثة نظام اداري هرم ولم يعد صالحاً ،وورثة مشاكل هيكلية معقدة في القطاعات المختلفة التي تمثلها الوزارات والمؤسسات، ونحن متخلفين عن العالم لعقود طويلة نتيجة الحروب والعزلة والحصار وعدم التواصل المعرفي وهذا يعني ان الوزير او المسؤول في مؤسسته يفترض ان يكون قائداً لعملية اصلاح كبرى، لعملية تنموية كبرى، ولان التنمية لا تسير بسلاسة في ظل أنظمة عمل فاشلة ، عليه لابد للإصلاح الإداري من ان يسير متزامناً مع الإصلاح الاقتصادي، وهنا لا اعني بالمبادرات الإصلاحية تغير الشخوص رغم أهميته، ولكن اعني تغير المسارات الإدارية والتفكير والتوجهات وآليات العمل، فمثلاً ، منذ التغيير في 2003 إلى اليوم لم يستلم وزارة المالية أي من الوزراء المختصين، ربما فقط لبضعة اشهر في إحدى السنوات ، لذلك كانوا أسرى الأنظمة القائمة ، فهم لا يفقهون شيئا بتلك الانظمة أصلا ، فكيف يشخصون صلاحها من فشلها ، والمسئولين الآخرين في الوزارة مسلكيين وكلاسيكيين في الغالب وبارعين في حفظ وتدوين تلك الأنظمة المعتادين عليها والمدافعين عنها ولا يعرفون سواها، وفي الغالب تحقق لهم مأرب شخصية ونفعية يخشون زوالها بتغيير آليات العمل وإدخال التعامل الآلي المحوسب، هؤلاء هم الحلقة التي كانت تغذي اي وزير غير مختص ويسقط في شباكهم فيتبنى المنهج البالي لأنه لا يرى سواه ولا يرى عيوبه ، فيستسلموا للموروث ، وزارة المالية الركن الاقتصادي الأهم بقي وزرائها واحدا بعد الأخر محصورين بين تمشية البريد وإعداد الموازنة العامة ، وأي إعداد ، بنفس المعزوفة ونفس الموال، تقدير سعر النفط وضربه بالصادرات المتوقعة يساوي الإيرادات النفطية ( التي تشكل اكثر من 95 % من الإيرادات العامة) فتبقى 5% لمصادر التمويل الأخرى لا يجد المسؤول ضرورة لتصديع رأسه بها ، والجانب الأخر النفقات العامة تقدر من خلال النظر الى تخصيصات السنة الماضية (t-1) لتقدير تخصيصات السنة الحالية (t0) وبعد وضع الأرقام يؤتى الى (مزاد التخصيصات) في اجتماع مجلس الوزراء وهم في الغالب لا يعتنون ولا يكترثون بالصورة الكاملة للاقتصاد ولا يعرفوها أصلا ،وإنما ينظرون من زاوية الوزارة فقط التي أصبحت إقطاعية شبه مستقلة لديهم، ويعتمد معيار أي الوزراء أكثر نفوذاً واعلى صوتاً ومن اكبر وأقوى كتلة فهو يحظى بقطعة اكبر من الكيكة وتوزع النفقات العامة هكذا بطريقة المساومة و ( الخواطر)، ثم يجد الجميع فيما بعد ان هنالك مجالات خصصت لها مبالغ كبيرة لا تملك القدرة على امتصاصها وان هنالك مجالات لها القدرة على الامتصاص وخلق التنمية ولكن لم يخصص لها نفقات كافية مما يعني (عبث الأولويات) ، هذا المؤشر طبعا لن يراعى في تصحيح هيكل التخصيص في السنة اللاحقة لان التخصيص ابتداءً يعتمد على مؤشرات أخرى ليس لها علاقة بالنتائج للحسابات الختامية الغائبة أصلا، ولذلك ، لم يتمكن وزير في المالية إلى يومنا هذا من إحداث الإصلاح في اي مجال مهم من أنشطتها، بل لم يعرف احد منهم كيف يمكن تحسين اعداد الموازنة والانتقال بها الى أسلوب اخر يربط الأهداف التنموية بالتخصيصات وفق مؤشرات يتم محاسبة المسؤول على أساس تحقيقها من عدمه (موازنة البرامج والأداء)، كما لم نجد وزير في المالية قاد مبادرة إدارة الدومين العام الحكومي بالشكل الكفوء، حيث الكثير من أملاك الدولة سائبة دون عائد او ريع يذكر ، (حرمه على الغير ولا تأكله أنت ) فلا هم قادرين على تمكين القطاع الخاص من هذه الممتلكات والعقارات والأراضي للاستفادة منها وتنشيط أدائها وفق معايير القطاع الخاص الناجعة(استعمارها) ولا هم أداروها بموظفي الدولة بشكل كفء ، ولا أمل لي في ان يحصل الكفء في أي إدارة عامة لمرفق إنتاجي ، كما لم يأتي وزير واحد استطاع ان يطبق نظام جديد يسمى ( الأوفست) او التعادل التجاري وهو نظام معمول به في العالم منذ أمد ، والذي يفرض على الشركات الموردة للعراق بمبالغ كبيرة جداً وخاصة الأسلحة والبطاقة التموينية والأدوية والكهربائيات من استثمار نسبة من مبالغ التوريد في العراق كأستثمار خاص لدعم التنمية وبقي النقد الأجنبي يتسرب ولا يحقن في الاقتصاد، وقد كتبت في ذلك عدة دراسات وأراء منذ 2007، الا ان عدم فهم المسئولين للموضوع وعدم قدرتهم على اتخاذ قرار ، حال دون تنفيذه فبقي على الرفوف ، كما لم يأتي وزير واحد الى يومنا ، فرض النظام المصرفي الشامل على المصارف الحكومية على الأقل ، رغم اننا نسمع به منذ عشر سنوات دون تطبيق، كما لم يأتي وزير واحد حاول احداث طفرة في الإصلاح الضريبي والكمركي، وبقيت الأنظمة متهرئة وبالية والتحاسب الضريبي خاضع لأمزجه الموظف الضريبي والكمركي وابتزازه، والعبء الضريبي الذي يتحمله المكلف بالجزء الذي يدخل الى موازنة الدولة لا يساوي 25% من اجمالي العبء، لان المبالغ المدفوعة لجيوب موظفي الضرائب والكمارك اكبر بكثير، فصار الموظف الضريبي يجد للمكلف سبل التهرب ويغطيها قانونياً مقابل ما يحصل عليه من جبايه لجيبه . كان هذا مثال واحد لوزارة مهمة، ولكل الوزارات والدوائر قصصها المأساوية ومبادراتها المغيبة، فهل ان الوزير الذي تسنم الوزارة يدرك مهامه الإصلاحية ويتغاضى عنها؟ فتلك مصيبة ، ام لا يدركها أصلا فالمصيبة أعظم، وهو هنا محتكر لموقع عملاق يستطيع ان يمارس به كل صلاحيات الإصلاح والتقدم للأمام، ولكنه لم يفعل، هل غرق بتوافه البريد ؟ ، إجازات موظفين ، وترقياتهم ، ونقلهم من مكان لأخر وأمور إدارية بسيطة محتكرة ؟، أم غرق بالواسطات والمحسوبيات التي يجيدها أعضاء البرلمان وأعضاء مجالس المحافظات ببراعة وهم يطوفون الوزارات والمؤسسات بحثا عن تعينات او عقود ؟ ام بكلاهما، ترى، هل يشفع لهم الادعاء بان التخصيصات لا تكفيه ؟، كلا لان ذلك محض افتراء ففي سنوات الرخاء كانت الأموال المخصصة تعاد للموازنة بنسب مختلفة من عدم الإنجاز رغم استخدام كل فنون التبذير والانفاق على توافه الأشياء دون (وجع قلب) كما يقال او دون أدنى حرص. إنهم ببساطة لم يكونوا وزراء ناجحين كما تدعي أحزابهم ، ربما يكونوا ناجحين في إرضاء أحزابهم فهذا شأن أخر، ولكن على صعيد بناء العراق كانوا(فاشلين) وفاشلين بامتياز، وعندما يحتكر الفاشل الموقع ولا يسمح لسواه من التصدي ، وعندما يستخدم كل الطرق لقمع الكفاءات من الارتقاء واخذ مكانها الصحيح، وعندما لا تحصل التنمية ويبقى البلد غارق بالتخلف وشبابه غارق باليأس والبطالة،فأنه مارس الاحتكار الإداري حتما، ومنع البلد من فرصة الانطلاق وفرصة تنويع الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل وبذلك يستحق ما يستحقه المحتكر الاقتصادي من اللعن على لسان سيد الخلق محمد (ص) والناس اجمعين.
|