من أي ثدي وأي حليب رضعوا؟

من جديد -وليس بجديد في عراقنا- تتكرر أعمال العنف بتزايد وتزامن على بقاع البلد، بشكل ينم عن أصول متجذرة في البغض والحقد، من نفر ضال من اشباه البشر الذين لاتنعتهم صفة ولاتصفهم مفردة في لغتنا، وهم على حد سواء في دناءة فعلهم وجرمهم ان كانوا منفذين اومخططين اوممولين اومتسترين، فهم في كل الأحوال يزهقون أرواحا بريئة حرمت كل الشرائع قتلها. وقد بانت النوايا الحقيقية لهذه التفجيرات بشكل جلي وواضح للجميع بعد ان كان البعض يشكك في كونها تنحو منحى طائفيا، إذ أن القائم بها لم يعد يطبِّق (فرضة وشعيرة) ليطلق عيارا ناريا يصيب به شخصا معينا، كونه شيعيا او سنيا او كرديا او تركمانيا، او غيرها من قوميات وطوائف المكون العراقي الذي يشبه الى حد بعيد خلية النحل، من حيث التراص والتقارب والتوادد على مر العصور والأزمنة. وبات معلوما ان المستهدف من عمليات العنف جميعها هو العراقي أيا كان دينه وعرقه ومذهبه، ولم يعد الأمر كما كان يتوهم البعض ويحاول ان يوهم البقية، ان الأنبار سنية والعمارة شيعية وكركوك تركمانية.
كما أظن ان العبارات التي أنشأها متصيدو الغفلة ومتحينو الفرصة لم يعد لها وجود على أرض البلاد، كعبارة (مثلث سني) او إطلاق تسمية (محافظة شيعية) على كربلاء او النجف، وكذا الحال مع العاصمة بغداد التي حاولوا جاهدين تسمية محلاتها وأزقتها حسب الانتماء الديني والطائفي، فالأعظمية كانوا قد خصصوها للسنة ومدينة الصدر والشعلة للشيعة، وغيرها من مناطق البلد التي لم تكن يوما إلا عراقية فقط. ولاننسى تمادي المغرضين الى أبعد من هذا، فعلى سبيل المثال أطلقوا على (زيونة) مدينة أزلام صدام، باحتساب ان نسبة عالية من ضباط الجيش العراقي يسكنونها، مع أن ساكنيها كانوا من أطياف العراق جميعها بمن فيهم الضباط والقادة.
ويطول الحديث اذا أحصينا المناطق الأخرى ومسمياتها التي أبت إلا ان تبقى عراقية، بدلائل حية تفرض إثباتها بين الحين والآخر في عراقنا. فعلى سبيل المثال لا الحصر، حين يفوز منتخبنا الوطني في مبارات يهبّ الجميع للتعبير عن فرحتهم وشعورهم بنشوة النصر كل بطريقته الخاصة، إذ تمتلئ حينها شوارع الأعظمية والشعلة وزيونة ومدينة الصدر والدورة والبياع والفضل والگريعات، وباقي محلات بغداد وكذلك المحافظات كافة، مرددين هتافات وأهزوجات وأناشيد لاتعرف غير العراق، ورافعين علما واحدا هو علم العراق لاغيره.
كذلك من الأدلة على وحدة ناسنا الطيبين، ماحدث قبل سنتين يوم فاض نهر دجلة في بعض مدن صلاح الدين، فقد سارع أبناء البلد من محافظاته كافة الى نجدتهم ومساندتهم في محنتهم. ولم تنته الآصرة الرابطة بين العراقيين عند هذا الحد، بل تعددت مواقفهم وتجلت أكثر مع النازحين من محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى، فقد كانت القلوب مفتوحة قبل الأحضان والبيوت لاستقبال المهاجرين منها الى المحافظات الآمنة.
الفرقة إذن، والشتات يكمنان في شريحة الساسة فقط، وهم ليسوا بغافلين او ناسين او (غشمه) عن حقيقة ناصعة كشمس تموز في كبد السماء، تلك هي حقيقة الشعب العراقي وطبائعه المتوارثة جيلا بعد جيل، في الألفة والتوادد والتآزر فيما بين أفراده، بعيدا عن التفرقات الدينية والطائفية والقومية والعشائرية.
أرى أن العراق اليوم منقسم الى قسمين شئنا أم أبينا! القسم الأول هو الشعب، الذي لايبتغي أكثر من العيش بسلام في دار السلام، آمنا مطمئنا ليومه وغده، أما القسم الثاني فيتمثل بالجهة الحاكمة، إذ يبدو أن المنصب القيادي ينسي معتليه مامنوط به من واجبات مهنية ووطنية تجاه رعيته، ويتحول بعد تبوئه مقعد التسلط الى صنم يخال نفسه معبودا، فيما هو بحقيقته عابد للجاه والسلطة والنفوذ، وما يتفرع منها من منافع شخصية ومادية، ومآرب فئوية وحزبية، رافعا شعار الأنانية وحب الذات. أما مسببات هذا التحول، فإن مردها يكمن في نفسية الحاكم وتكوينه الشخصي، واللذين يفضيان بدورهما الى تخويله للقيام بأفعال مشينة، ليس أولها الظلم، وآخرها ليس الطغيان، وقد ورد في مثلنا الدارج؛ (كلمن يردّه حليبه)..! كذلك قال أجدادنا في حال الإطراء على شخص عفيف نظيف شريف؛ (ألف رحمه على ديس الرضعته)..! فأي ثدي ياترى رضع منه ساستنا؟! وأي حليب هذا الذي رضعوه؟!.