آخر ما يمكن أن أقدمَ عليه في ظروف التقشف هذه هو إتلاف مبلغ خمسين ألف دينار، ومن دون أية فائدة تذكر، لكن هذا بالضبط ما حدث معي حين قررت زيارة طبيب العيون لمرتين متتاليتين. في المرة السابقة وجدته جالسا كئيبا ، بادرته بالتحية فبادرني بالشكوى من شخصية المجتمع العراقي !! قلت له وبشيء من الأدب المفتعل : عفوا دكتور لقد استبدلت عدسات نظارتي حسب وصفتك الكريمة ، ويبدو يا سيدي أن في الأمر خللا ما ، أرجو أن تساعدني من فضلك؛ لأنني أكسب رزقي ورزق عيالي بهذه العينين البائستين ، فما كان منه إلا أن سألني قائلا: من عمل لك العدسات ؟ فقلت له إنها عوينات الغاضرية . رمقني الطبيب بابتسامة باهتة، ثم سحب الوصفة الطبية السابقة، ودسها بلمح البصر في مكان ما، وبسرعة موازية أجرى لي الفحص وانتهى منه ، ثم كتب لي وصفة جديدة، محذرا إياي من العودة إلى الغاضرية مرة أخرى أبدا، ولكن إلى أين أذهب يا دكتور ؟ فردّ على الفور وبثقة مطلقة : عوينات الناظر طبعا . أعطيت الدكتور ورقة نقدية من فئة (25 )ألف دينار، وقبل أن استرجع مبلغ العشرة آلاف دينار المتبقية لي بذمته سرد لي الطبيب مجموعة من الحكايات العجيبة عن أصحاب العوينات والصيدليات الفاشلين في مدينة كربلاء. توكلت على الله، وتفاءلت خيرا بالنظارة الجديدة ، ولكن ما أن ارتديتها وسرت بضعة أقدام في الشارع حتى أدركت أن النظارة القديمة أفضل مئة ألف مرة من هذه الجديدة ! ومع هذا الإحساس المرعب قررت أن أعود للدكتور حالا لينقذني مما أنا فيه من ورطة ، فقد صرت أرى الأشياء أقرب من مسافاتها الحقيقية، وأمشي مشية السكارى أو المجانين، لكنني عدتُ أجرُّ خطى السكر والجنون حين لاح لي باب العيادة ( عن قرب) موصدا بقفله الضخم الأسود . في اليوم التالي بكرّت لزيارة العيادة التي كانت مكتظة بالزبائن هذه المرة. أخبرت موظف الاستعلامات أنني أريد عرض العلاج على الطبيب ليس إلا، فسمح لي بالدخول مع شاب مريض كان في أقصى درجات البؤس والحرمان . ومن دون تحية مبالغ فيها ولا أدب مفتعل أخبرت الطبيب بالنكبة التي حلّت بي، وأنا أشير إلى عينّي اللتين تحولتا بسبب النظارة الجديدة إلى جمرتين ملتهبتين ، فطلب مني بأدب مفتعل هو هذه المرة أن أنتظر ريثما ينتهي من إجراء الفحص على الشاب المريض. وبينما هو يفعل ذلك انتابتني حالة من الانقباض الشديد وأنا استمع إلى أسئلة الطبيب وردود الشاب المريض : الطبيب : شكد عمرك ؟ المريض: 19 سنة الطبيب: شتشتغل ؟ المريض : سايق ستوتة الطبيب: بابا شوفلك شغلة ثانية ، شغلة بيها فَيّ ومَيّ ، ستوتة شنو..
بعد أن فرغ من حساب الخمسة عشر ألفا التي دفعها إليه المريض بيد مرتعشة ،أمرني الطبيب بالجلوس أمام لوحة الفحص، في هذه الأثناء اختلست النظر إلى ملامح وجهه أكثر من مرة فبدت لي تقطر غيظا وألما على الوقت الذي سيهدره معي من دون خمسة عشر ألف دينار... قبل أن أخرج من غرفته لم ينس الطبيب سؤالي عن محل العوينات الذي عمل لي النظارة الأخيرة ، فقلت له : الناظر طبعا. لم يتحدث الطبيب هذه المرة عن أصحاب العوينات والصيدليات الفاشلين، لقد اكتفى بتحذيري من العودة للناظر ثانية، وأن أمضي فورا إلى عوينات الجنوب !!
*الستوتة : عربة حديدية مكشوفة تعمل بالبنزين وتستعمل لنقل البضائع والأشخاص
|