عدوى التعصّب الديني

 

هل التعصّب الديني‮ ‬ينتقل بالعدوى أم ثمّة ردود فعل وبيئة تساعد على تفقيس بيضه؟ فما أن‮ ‬يبدأ في‮ ‬مكانٍ‮ ‬ما وضدّ‮ ‬مجموعةٍ‮ ‬ما،‮ ‬إلاّ‮ ‬ويجد ردود فعل تنمو في‮ ‬تربة خصبة اجتماعياً‮ ‬واقتصادياً‮ ‬وثقافياً،‮ ‬سواءً‮ ‬على المستويين الداخلي‮ ‬أو الخارجي‮. ‬وتشير بعض الإحصاءات إلى أن‮ ‬70% من سكان العالم،‮ ‬أي‮ ‬ما‮ ‬يقارب ستة مليارات من البشر،‮ ‬يعيشون في‮ ‬دول تفرض قيوداً‮ ‬صارمة على الحرّية الدينية،‮ ‬سواء كانت رسمية أو عبر مشاعر عداء ضد أتباع الديانات الأخرى.وخلال العقود الأربعة الماضية شهد العالم موجة شديدة من التعصّب الدّيني‮ ‬مترافقة مع عنف وإرهاب وهدر صارخ لحقوق الإنسان،‮ ‬سواء اتّخذ شكل حروب أو نزاعات مسلّحة دوليّة أو أهليّة،‮ ‬وعلى نحو مباشر أو‮ ‬غير مباشر.لقد تجاوز التعصّب الديني‮ ‬حدود البلدان وأصبح في‮ ‬زمن العولمة عابراً‮ ‬للقارات،‮ ‬وظاهرة‮ “‬فوق قومية‮” ‬تستطيع الزوغان من القوانين والأنظمة المرعية،‮ ‬وخير مثال على ذلك نموذج‮ “‬داعش‮” ‬الأكثر تعصّباً‮ ‬وعولمة ووحشية على الصعيد الدولي،‮ ‬بعد تنظيم القاعدة،‮ ‬فتراه وبكل سهولة‮ ‬ينتقل من المشرق العربي‮ ‬إلى المغرب العربي،‮ ‬فبعد احتلال ثلث أراضي‮ ‬كل من العراق وسوريا،‮ ‬وفرض عليها نظاماً‮ ‬يعود إلى القرون الوسطى،‮ ‬ظهر وهو‮ ‬يضرب في‮ ‬سيناء وفي‮ ‬ليبيا وتونس وغيرها.وإذا كان الغرب مستودع الحضارة البشرية وما أنجزته من علوم وتكنولوجيا وعمران وجمال وآداب وفنون،‮ ‬ولا سيّما في‮ ‬القرنين ونيّف الماضيين،‮ ‬فإنه ليس بريئاً‮ ‬من لوثة التعصّب الذي‮ ‬يتّخذ أشكالاً‮ ‬مختلفة،‮ ‬تارة الحفاظ على الهويّة،‮ ‬وأخرى‮ ‬يتم توظيفه عنصرياً،‮ ‬إضافة إلى كراهية الأجانب،‮ ‬ولا سيّما العرب والمسلمين،‮ ‬وقد حاول مؤتمر ديربن ضد العنصرية الذي‮ ‬انعقد في‮ ‬العام‮ ‬2001 أن‮ ‬يعالج موضوع التعصّب والكراهية للأجانب بما فيه التعصّب الديني،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وأنّ‮ ‬فايروساته أصاب شعوباً‮ ‬عديدة.وقد حاول بعض فقهاء القانون الدولي‮ ‬والمختصّين بحقوق الإنسان أن‮ ‬يؤطّروا الموضوع بالدعوة إلى إبرام اتفاقية دولية ملزمة تحظر التعصّب الديني،‮ ‬وذلك مع الأخذ بنظر الاعتبار بعض الإعلانات والقرارات التي‮ ‬اتّخذتها بعض المؤتمرات الدولية،‮ ‬والوثائق التي‮ ‬صدرت عنها،‮ ‬والعمل على تطويرها بما‮ ‬ينسجم مع المبادىء العامّة الآمرة في‮ ‬القانون الدولي،‮ ‬أي‮ ‬الملزمة في‮ ‬الحال وفي‮ ‬المستقبل،‮ ‬وكما تسمّى باللاتينية‮ ‬Jus Cogens .ولا‮ ‬ينتهك التعصّب الديني‮ ‬قواعد القانون الدولي‮ ‬فحسب،‮ ‬بل‮ ‬يمتدّ‮ ‬إلى انتهاك القانون الإنساني‮ ‬الدولي،‮ ‬والقانون الدولي‮ ‬لحقوق الإنسان،‮ ‬خصوصاً‮ ‬التي‮ ‬تتعلّق بحظر التمييز والحضّ‮ ‬على الكراهية والدعوة للعنف والعنصرية والإرهاب وانتهاك حرّية التعبير،‮ ‬وبقدر ما‮ ‬يكون التعصّب الديني‮ ‬انتهاكاً‮ ‬بذاته لمنظومة الحقوق والحرّيات،‮ ‬فهو في‮ ‬الوقت نفسه‮ ‬يعد انتهاكاً‮ ‬لحقوق أخرى.ولا‮ ‬يرتبط التعصّب الدّيني‮ ‬بدين محدّد على الرغم من أن بعض المحاولات المُغرضة في‮ ‬الغرب التي‮ ‬تحاول‮ “‬شيطنة‮” ‬الإسلام و”أبلسة‮” ‬المسلمين،‮ ‬باعتبار تعاليم دينهم تشجّع على العنف والإرهاب،‮ ‬وأنهم مجبولون عليه،‮ ‬فهو‮ ‬غير محصور بمعتقد أو دين أو آيديولوجيا‮. ‬إنّه‮ ‬يمكن أن‮ ‬يوجد لدى جميع أتباع الأديان والمعتقدات والآيديولوجيات،‮ ‬طالما تتوفّر بيئة مناسبة تساعد على نموّه،‮ ‬وإذا ما انتقلت الفكرة إلى الممارسة،‮ ‬فإنّها تتحوّل إلى عنف وإرهاب،‮ ‬سواءً‮ ‬كان فردياً‮ ‬أم جماعياً‮ ‬أم إرهاب دولة.إن خطر التعصّب الديني‮ ‬يزداد كلّما انتقل من ممارسة فردية قد تكون معزولة بسبب مرض نفسي‮ ‬أو لعلاقات عائلية‮ ‬غير طبيعية،‮ ‬أو لوضع اجتماعي،‮ ‬إلى ممارسة جماعية،‮ ‬أي‮ ‬أن تقوم مجموعة تحت عناوين مختلفة مثل الاستعلاء وادعاء الأفضليات وزعم امتلاك الحقيقة لممارسة عنفية أو إرهابية ضد مجموعة بشرية أخرى وانتهاك لحقوقها،‮ ‬وكان كارل ماركس على حق حين قال منذ وقت مبكّر‮: “‬إنّ‮ ‬شعباً‮ ‬يضطهد شعباً‮ ‬آخر لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون حراً‮”‬،‮ ‬لأن من‮ ‬يمارس الاضطهاد ضد الآخر،‮ ‬فإنه‮ ‬يمارسه ضد إنسانيته أيضاً،‮ ‬وبالتالي،‮ ‬فإن العنف الموجّه ضدّ‮ ‬الغير،‮ ‬هو عنف موجّه نحو الذات أيضاً،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬يحتاج إلى معالجة سيسو ثقافية قانونية تربوية،‮ ‬بحيث‮ ‬يتم في‮ ‬الآن ذاته وقف العنف والاضطهاد ضد الآخر،‮ ‬وهو ما سيؤدي‮ ‬إلى وقف العنف الموجّه إلى الذات أيضاً‮.‬المتعصّبون لا‮ ‬يميّزون بين آخر وآخر،‮ ‬إنهم ضدّ‮ ‬كل آخر،‮ ‬بسبب من‮ “‬أدلجتهم‮”‬،‮ ‬سواء كان هذا الآخر من أبناء البلد الواحد،‮ ‬أو أجنبياً،‮ ‬وكل آخر حسب وجهة النظر هذه هو‮ ‬غريب،‮ ‬وكل‮ ‬غريب مُريب،‮ ‬وأحياناً‮ ‬تمارس التعصّب دولة من خلال قوانين تبرّر لها احتلال أراضي‮ ‬الغير،‮ ‬بل وتقوم بطرد السكان الأصليين من بلادهم،‮ ‬وهو ما عملت عليه‮ “‬إسرائيل‮” ‬منذ تأسيسها في‮ ‬العام‮ ‬1948 وهي‮ ‬تسعى اليوم لتتحوّل إلى‮ “‬دولة‮ ‬يهودية نقية‮”.‬صدر الإعلان الدولي‮ ‬بشأن التعصّب الديني‮ ‬في‮ ‬العام‮ ‬1981? ومنذ البداية تنازعه اتّجاهين‮: ‬الأول‮: ‬يريد تقييد حرّية التعبير لكي‮ ‬لا‮ ‬يتم التجاوز على الأديان،‮ ‬كما حصل في‮ ‬الصور الكاريكاتورية المسيئة للرسول محمد‮ (‬ص‮)‬،‮ ‬والثاني‮: ‬يريد إزالة أي‮ ‬قيود حتى لو أدّت إلى ازدراء الأديان أو الطّعن بها،‮ ‬على أساس احترام حرّية التّعبير كحق أساسي‮ ‬للإنسان،‮ ‬ولكن الانقسامات عادت مجدّداً‮ ‬بين قطبين الأول‮ ‬يمكن أن نطلق عليه‮: ‬فهم عربي‮ ‬وإسلامي،‮ ‬والثاني‮ ‬فهم‮ ‬غربي‮ ‬وليبرالي،‮ ‬وهو ما كان محط نقاش في‮ ‬اليونسكو مؤخراً‮ ‬لتحديد العلاقة بين حرّية التعبير وبين احترام الآخر،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬يحتاج إلى توازن بعيداً‮ ‬عن التقديس أو التدنيس،‮ ‬فلا تتم التضحية بحرّية التعبير بزعم الدفاع عن‮ “‬المقدسات‮” ‬التي‮ ‬هي‮ ‬ليست مقدسات لدى الآخر،‮ ‬ولا‮ ‬يتم الانفلات فيها لدرجة تحقير الأديان،‮ ‬باسمها وتحت مبرّراتها‮. ‬ويعتبر تعيين مقرر خاص بالتعصّب الديني‮ ‬من مجلس حقوق الإنـــسان في‮ ‬العام‮ ‬1986 ‮ ‬إنجـــــازاً‮ ‬مهمّاً،‮ ‬وفي‮ ‬العام‮ ‬2000 ‮ ‬استبدلت التسمية إلى‮ “‬المقرر الخاص لحرّية الدين والمعتقد‮..”‬،‮ ‬ولا زال الفقه الدولي،‮ ‬إضافة إلى القضاء الدولي،‮ ‬غير موحّد إزاء موضوع الموقف من التعصّب الديني،‮ ‬ويشوب بعض وجهات نظره الغموض والإبهام،‮ ‬وإذا كانت بعض القوانين الوطنية قد اتّجهت صوب بعض الإجراءات التنفيذية والآليات القانونية المعتمدة،‮ ‬وإن كان لٍكل بلد فهمه وتفسيره وقوانينه،‮ ‬فإن مثل هذا الأمر لا زال بحاجة إلى جهد دولي‮ ‬كبير للتوصل إلى ما هو مشترك،‮ ‬خصوصاً‮ ‬باعتماد آليات قانونية‮ ‬غير تقليدية،‮ ‬وقبول شكاوى وزيارات ميدانية،‮ ‬إضافة إلى جهود المقرر الخاص والخبراء المستقلين لتقييم أثر التعصّب الدّيني‮ ‬وانطباق بعض الممارسات على توصيفه،‮ ‬لأنه‮ ‬يشــــــــــــكّل تهديداً‮ ‬للسلم الأهلي‮ ‬والأمن الوطني،‮ ‬مثلما هو تهديد للسلم والأمن الدوليين‮.‬