تطرقنا في العدد(2) الى أحد جوانب الاحتكار الإداري والمتمثل بغرق المسئول في أطنان البريد الورقية سواء كانوا قيادات إدارية عليا للوزارات والمؤسسات او الأدنى منهم ، دون تمكنهم من قيادة مبادرات مهمة إصلاحية، فبقيت الأنظمة الإدارية الموروثة سبباً في تأخير الإصلاح الاقتصادي والتنمية ، وحيث اننا أثبتنا وجود علاقة دالية منطقية باتجاهين بين الإصلاح الإداري والإصلاح الاقتصادي الامر الذي يحتم علينا ان نجعلهما يسيران معاً، حيث ان الاحتكار الإداري يولد لا كفاءة حتماً، واللاكفاءة تعني عدم قدرة مخرجات المؤسسة او المنظمة على المنافسة في سوق السلع والخدمات وهذا يعني لا كفاءة اقتصادي متمثلة باحتكار اقتصادي، لجني أرباح احتكارية ،حيث ان الكفاءة تكمن بالمنافسة في كل شيء المنافسة الخالية من الشوائب والتدخلات، المنافسة غير الموجهة، المنافسة العادلة في اتاحة الفرص بالتساوي.
وهنا نود التركيز على الاحتكار الموجود في مؤسسات الدولة المعنية بمنح التراخيص لتحقيق احتكار اقتصادي ( عائد احتكاري) من جراء الابتزاز والرشا والفساد، فأن هذه الغاية تستوجب حصول احتكار اداري، في تلك المؤسسات المسؤولة عن ( منح ترخيص ما)، ابتداءً من تسجيل الشركات حيث تحبس المعاملات المقدمة في تلك الدائرة لفترة طويلة بانتظار اشتداد الكلف غير المنظورة والوقت المهدور والجهد الضائع من قبل مقدمي الطلبات لكي يصلوا الى حالة الاستعداد للدفع، هذا الدفع للتعجيل هو كلفة على المستثمرين والمقاولين وأصحاب الشركات وهو عائد الإداريين الفاسدين المعرقلين و ليس جباية للحكومة، فإذا ما نظرنا الى الكلف الرسمية لتسجيل الشركة نجدها لا تشّكل 20% من اجمالي المبالغ المدفوعة او المهدورة بالانتظار ( كلف الفرص البديلة)، فإذا كانت الحكومة تجبي من جراء ذلك 20% فأن المقاولين والمستثمرين يدفعون 100% معنى ذلك ان 80% هي لجيوب المبتزين والمؤخرين والمعرقلين من موظفي الدولة الذين يمارسون احتكاراً ادارياً بغية تحقيق احتكار اقتصادي، حيث يتحقق عائد احتكاري 80% لا يذهب كإيراد للمنظمة او المؤسسة الحكومية، وهؤلاء هم مقاومين شرسين لأي اصلاح اداري او أي تبسيط للإجراءات او أي اختصار للحلقات الروتينية لأنه عند كل حلقة هناك (ديناصور اداري) له حصة في ( العائد الاحتكاري) ، وأمام هذه المصالح المتشابكة فأن الإجراءات بالتأكيد تبقى معرقلة، طالما ان النفعيين موجودين وطالما لا يوجد عقاب حالة بحالة ناجم عن متابعة ناجعة ، ففي معظم الدول أو الأنظمة التي مارست الإصلاح الإداري كانت لديها قيادة صارمة تفرض الإصلاح بقوة قاهرة، لان الإصلاح هنا ان انك تجري عملية جراحية لإنقاذ الإداريين من جشعهم وجهلهم وترتقي بهم، فهو علاج وليس بطش، إنما هي الصرامة المطلوبة والمرغوبة لتحقيق هدف الإصلاح الإداري، فمن غير الممكن تحقيق اصلاح اداري في وضع مثل العراقي باسترخاء الأوامر وبرودة الخطاب وخجل الإجراءات، و علينا أن ندرك ان كل صرامة عادلة ومدروسة ومشخصّة بموضوعية فهي اصلاح وهي في عين الله ، على خلاف ما يرى المتفذلكون في نظامنا الجديد، وبمجرد ان تفقد الصرامة صفاتها الانفة فأنها قد تصبح انتقام اداري او اقصاء او تغيب او استحواذ او تحيز وعلينا ان ننتظر آثارا سلبية لها على خلاف الإصلاح بنوايا صادقة وواثقة. ما ذكر من حالات احتكار عند منح التراخيص وعدم منحها بروح المنافسة العادلة بعد وضع المعايير والشروط العادلة (العتبة ) التي يجب أن يجتازها الجميع سواء عند بدء الاعمال التجارية او عند تصفيتها وما بين ذلك من مزاولة أنشطتها ، هو الذي جعل بيئة الأعمال سيئة في العراق (حسب تقارير البنك الدولي الدورية ) Report of Doing Business وهو السبب الذي احتجز الاستثمارات المحلية والأجنبية من أن تلج إلى قطاعاتنا الاقتصادية المتعطشة وهو الذي أخر التنمية في العراق، ولها مصاديق في الكثير من المؤسسات الأخرى، مثل تراخيص الاستيراد وتراخيص التصدير وإعادة التصدير وتراخيص إقامة مشاريع الوقود ( محطات البنزين) وتراخيص النقل التي تتنافس الشركات المتخصصة للحصول عليها وتراخيص فتح شركات الصيرفة وتراخيص البناء وتراخيص ممارسة المهنة وتراخيص فتح المنظمات غير الحكومية ومعاملات نقل الملكية، بل وحتى معاملات سداد المستحقات الضريبية للحكومة، أي ان المكلف يعرقل حتى في الدفع مثلما العميل في المصارف يعرقل حتى في السداد او الإيداع، وهذه من الغرائب التي لا تستساغ الا في الأنظمة الإدارية العراقية التي تزداد تخلفاً كلما كانت قبضة الحكومة اقل قوة وإرادة الفساد أكثر فتكاً. وإذا كان الفساد هو الأب الروحي للاحتكار الإداري و الاحتكار الاقتصادي، فأن احتكار معالجة الفساد ضمن مؤسسات رقابية بآليات عمل بالية كتلك التي يقوم بها ديوان الرقابة المالية الذي لازال متشبثاً بالتدقيق المحاسبي للفساد بحيث ينظر الى (النملة) بنفس الأهمية درجة النظر الى (الفيل) ويغرق هو الأخر في حسابات ورقية ودفترية لم تحوسب الى اليوم ولم تجد طريقها للمتابعة بعد تشخيص الخلل، فأن ذلك يعني وجود احتكار رقابي ينجم عنه عدم كفاءة رقابية، وإذا كانت التقارير الرقابية لا تجد طريقها للتقييم السريع وإنزال العقاب السريع، فإن التقارير الدورية تتراكم، وقد تراكمت بالفعل ولم يعد بمقدور الحكومة حتى لو توفرت لديها الجدية والصرامة ان تحاسب، او تقّوم الاعوِجاج، لأنها لا تدري من أين تبدأ أمام ركام قضايا متنوعة و قضايا فساد، وهذا ينطبق على دوائر المفتشين العموميين وهيئة النزاهة أيضا ،وامتد التراكم إلى القضاء وصارت الاختناقات هيكلية في ملف معالجة الفساد، فضلاً عن ما تحويه من مخاوف لاستفزازات سياسية هنا وهناك غير محمودة العواقب. وإذا كان الفساد مركباً وأصبح ثقافة مجتمع وينمو بمتوالية هندسية أمام إرادة الإصلاح فلا يمكن جعل الاحتكار الرقابي هو الأخر معرقلاً لمعالجة الفساد، بل لابد من مواجهة كل الفاسدين بكل الفعاليات الخيرة في المجتمع وتمكين الإعلام الموضوعي وتمكين منظمات المجتمع المدني وتمكين الأساتذة في المدارس والجامعات من تشخيص الفساد والتثقيف ضده، وهذه الحملة لا يمكن للأجهزة الرقابية القيام بها لوحدها خاصة اذا ما علمنا ان الاحتكار الرقابي ولّد تأخير كبير في الملفات، فظهر لدينا ( فساد أجهزة معالجة الفساد ) حيث يكون هنا دور العملاء ( مسئولين فاسدين او مقاولين نفعيين ) بعد حصول الزواج غير الشرعي بين (السلطة والمال ) عكس دورهم المستثمرين وأصحاب الشركات و أصحاب المهن في (احتكار التراخيص) فهؤلاء يدفعون بقصد التعجيل ويتحملون كلفة التأخير،بينما الدفع لمواجهة الاحتكار الرقابي يكون الدفع لغرض التأخير لان التعجيل يكلفهم مواقعهم الوظيفية وربما الذهاب الى السجن، وبذلك فأن توافق إرادة التأخير بين الموظف الرقابي والعميل ( مسئولين غالبا) تكون أسهل لأنها باتجاه واحد، ولا يعد التأخير هنا كلفة على العميل وإنما يعد ربحاً، ولذلك فأن الربح الاحتكاري الناجم عن الاحتكار الرقابي يتقاسمه الموظف والفاسد والخاسر الأكبر هو الدولة. وهنا ينطبق عليهم اللعن لأنهم يحتجزون قضايا الفساد ولا يجلبونها الى (سوق القضاء ) بمرونة فهم ملعونون على لسان الرسول الكريم (ص) لانهم محتكرين ، ألا لعنة الله على الظالمين.
|