الأخلاق ومفترقات التاريخ !


موضوع الثقافة، موضوع ثابت، هو لماذا نحيا ؟ - اما الحضارة فهي تقدم متصل يتعلق بسؤال آخر هو : كيف نحيا ؟
الاول سؤال عن معنى الحياة، والثاني عن كيفية هذه الحياة. ويمكن تمثيل الحضارة بخط صاعد على الدوام،
من اكتشاف النار مارًا بالطواحين المائية والحديد والكتابة والألة حتى الطاقة الذرية ورحلات الفضاء.
اما فهي بحث دائب يعود الى الوراء ثم يبدأ من جديد. ان الانسان كموضوع للثقافة، بأخطائه النمطية وفضائله وشكوكه وخطاياه، وكل ما يشكل وجوده الباطني، يبرهن على اوليته الفائقة، الى جانب عدم قابليته للتغيير.

ان جميع المعضلات والمشاكل المعروفة اليوم كانت معروفة في الاخلاق منذ اكثر من الفي سنة مضت، فجميع معلمي البشرية، سواء كانوا انبياء كموسى وعيسى ومحمد (عليهم السلام) او غير انبياء مثل (كونفشيوس) و (جوتاما بوذا) و (سقراط) و (كنت) و (تولستوي) وهم يمثلون احقابا من الزمن تمتد من القرن السادس قبل الميلاد حتى العصر الحالي، كلهم علموا البشرية الاخلاق نفسها.
ان الحقائق الاخلاقية حقائق ثابتة ( جون جالبرايث)، وهي بذلك تتميز عن القواعد والنظم الاجتماعية واساليب الانتاج. والسبب في ذلك يرجع الى ان (لغز الانسانية) قد بدأ في لحظة الخلق، تلك (المقدمة السماوية) او الفعل الذي سبق تاريخ الانسانية كله. وليس في مقدور العقل او العلم او الخبرة في حد ذاتها ان تساعدنا في الاقتراب او الفهم الافضل لهذه الامور كلها. لقد نطق عيسى بالحقيقة وهو طفل، ولم يكن يزيد الا قليلا عن سن الثلاثين من عمره عندما حُكم (بالصلب)، ولم يكن في حاجة الى معرفة او خبرة لتحصيل رصيده من الحقائق الكبرى عن الله والانسان، لان هذه الحقائق لا يمكن الوصول اليها عن طريق المعرفة او الخبرة. اليست هذه الحقائق تخفي عن الحكماء والمتعلمين ولكنها تنكشف للبسطاء.

ان الوصايا الاخلاقية الجوهرية لا تتأثر بالزمان والمكان او الظروف الاجتماعية، فعلى عكس ما نراه في النظم الاجتماعية والسياسية من اختلافات كبرى في درجات تطورها، نجد تماثلا عجيبا للمبادئ الاخلاقية في انحاء العالم.
ان (ابكتيتوس) و (ماركوس اورليوس) احدهما عبد والثاني ملك، كانا يعظان بالتعاليم الاخلاقية نفسها، رغم ان الناس كانوا يفهمون ماذا يريد الله منهم ان يفعلوا (تولستوي).
ان الاختلافات في فهم الخير والشر، المسموح والممنوع، تصادفنا فقط في المسائل الاقل اهمية. وما يُقدًم الينا عادة من امثلة عن استناد المعايير الخلقية الى ظروف تاريخية وغيرها، لا تتصل على الاطلاق بالمبادئ الاساسية في الاخلاق وانما فقط بما يتعلق بالاخلاقيات والسلوكيات الرسمية.

هذا التأكيد يتحقق عند (كانت) في مبدئه المشهور (الالتزام المطلق) وهو مبدأ موجود عند المفكرين الاقدمين ايضا.
وقد عرًفه (كانت) لاول مرًة في كتابه (اسس ميتافيزيقا الاخلاق) اي اعمل فقط وفقا لمبدأ تريد ان يكون قانونا عاما.
ثم عرًفه بعد ذلك في كتابه ( نقد العقل الخالص) فقال : (اعمل بطريقة يكون فيها المبدأ الذي اردته صالحا لان يكون مبدأ لتشريع عام.
وعندما سُؤل (طاليس) 600 قبل الميلاد احد الحكماء السبعة، كيف نحقق حياة اكثر استقامة ؟ أجاب :
عندما لا نفعل ما يستهجن فعله من جانب الاخرين. وعبر حكيم آخر هو (بيتا كوسي) عن المبدأ نفسه في الكلمات التالية : (لا تفعل ما نؤنًب الاخرين على فعله). اما المفكر اليهودي (هيليل) الذي عاش في فلسطين معاصرا المسيح، عندما سأله احد المشركين ليفسر جوهر الدين، أجاب (ما لا تريد ان يفعل بك لا تفعله بجارك) ان التوراة في مجموعها تنبع من هذا المبدأ، وما عدا ذلك فشروح وتعليقات.
الى الحلقة التالية !
* مقتبس من كتاب (الاسلام بين الشرق والغرب) لعلي عزت بيجوفيتش.