تخمة مخازن السلع وأثرها على سيولة رأس المال |
تتميز الاقتصادات المتقدمة بديناميكيتها وسرعة دوران العملية الاقتصادية ( طلب استهلاكي – انتاج سلعي – استخدام يد عاملة – زيادة المدخولات والقوة الشرائية – زيادة الطلب على السلع – زيادة الانتاج لمواجهة زيادة الطلب – الحاجة الى استخدام يد عاملة- ثم تعيد نفسها في زيادة المدخولات والقدرة الشرائية – زيادة الطلب – زيادة الانتاج .. وهكذا ). ويتزامن مع ذلك توظيف المزيد من الاستثمارات لتلبية احتياجات السوق المحلية من السلع والخدمات ، ثم يتجه العمل جدياً بالسعي للحصول على أسواق جديدة في الداخل والخارج عن طريق التصدير .. ومن هذا المنطلق الذي يبدأ بتسارع وتائر الانتاج المحلي من السلع وخاصة في حالة التركيز على السلع المعمرّة التي ترتفع فيها نسبة الاستثمار السلعي واندماج المزيد من رأس المال الوطني في العملية الانتاجية وما يترتب عنه من زيادة معدلات القيمة المضافة التي تتعاظم فيها مردودات رأس المال بخلق رؤوس أموال جديدة تجد طريقها الى الاستثمار .وباستمرار العملية الانتاجية في اطار الدورة الاقتصادية ينطلق رأس المال الوطني في حالة من التصاعد والنمو والتوجه الى مختلف مجالات التنمية الاقتصادية وتحريك محاور النشاط التنموي في البلد وجاهزية رأس المال كأداة فعّالة في التخطيط لمزيد من المشاريع الانتاجية التي توفر السيولة لرؤوس الاموال الوطنية الداعمة لعملية الاستثمار. ومع غياب سياسة التراكم الرأسمالي ، وتوقف حركة الدورة الاقتصادية والاعتماد على الاستيراد وتكديس السلع المعمّرة وبوتائر متصاعدة واستنزاف رؤوس الاموال الوطنية في استيرادات هذه السلع بسبب ضيق فرص الاستثمار في الداخل وخاصة في المجالات الانتاجية كما هو حاصل في العراق بالوقت الحاضر بحيث امتلأت مخازن القطاع الخاص بتلك السلع بشكل غير طبيعي ليمتد عرضها وتكدسها على الارصفة نتيجة ارتفاع معدل الاستيرادات العشوائية وغياب الجهة المركزية المخططة لسياسة الاستيراد التي تتولى وضع الضوابط واصدار التعليمات وتقديم المشورة لتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد ، وسباق التنافس الاستيرادي غير المدروس من قبل المستوردين ودخول الكثير من الطارئين على تجارة الاستيراد ممن يمتلكون رؤوس الاموال من دون ان يمتلكوا الخبرة والدراية في تأثير عملية التهافت على الاستيراد من الخارج وهدر الاموال في خزن وتجميد رأس المال في السلع المستوردة بهدف الحصول على أكبر حصة في السوق وخاصة في السلع المعمّرة التي ترتفع فيها معدلات استنزاف رؤوس الاموال، لاسيما وان ضعف الرقابة الصناعية والسيطرة النوعية سمحت باستيراد السلع ذات النوعية المتدنية ومحدودية فترة الاستخدام واستنزاف المزيد من رؤوس الاموال الوطنية في استيراد الادوات الاحتياطية ونفقات الصيانة . ونتيجة لهذا الواقع الذي تعانيه العملية الاستيرادية في العراق ، ومع تراجع الانتاج المحلي من السلع المعمّرة ذات الاقيام المرتفعة ، فقد أدى ذلك الى تراكم الخزين من تلك السلع ذات التكنولوجيا والأقيام المرتفعة كوسائط النقل غير الانتاجية وسلع الاستخدام المنزلي كالمكيفات واجهزة التبريد الاخرى والثلاجات والطباخات الكهربائية والغازية والافران والمدافئ واجهزة الكومبيوتر واجهزة الاتصالات ووسائل الانارة واجهزة التصوير والاثاث الجاهز المستورد المكتبي والمنزلي وعشرات الاجهزة والمواد الاخرى ذات الأقيام العالية ، فضلاً عن السلع الاستهلاكية الأخرى كالالبسة والمفروشات والمواد الكمالية التي تملأ الاسواق المحلية ، والتي تجاوزت عموم أقيام تلك السلع مليارات الدولارات ، الامر الذي أثر بشكل كبير على انحسار السيولة النقدية في السوق المحلية ، لاسيما خلال فترة الانكماش الاقتصادي الحالي الذي يعانيه الاقتصاد العراقي بسبب تراجع الموارد وانخفاض اسعار النفط وتضخم الميزانيات التشغيلية غير الانتاجية والصرف الحكومي غير المدروس والنفقات العسكرية لمواجهة الارهاب وهدر المال العام بسبب الفساد المالي والاداري .. مما جعل من هذا التكدس في السلع والبضائع المستوردة والتخمة التي تعاني منها مخازن القطاع التجاري الخاص استنزافاً للاقتصاد الوطني وتجميداً لرؤوس الاموال الوطنية وإفراغاً للسوق المحلية من السيولة النقدية وتوقف الكثير من محاور النشاط الاقتصادي والبناء وتفشي حالة الكساد بسبب تراجع الطلب على السلع والخدمات جراء انخفاض المدخولات وضعف القوة الشرائية .. ويعود ذلك بمجمله الى غياب التخطيط وسوء الادارة المالية وضعف دور الدولة في رسم السياسات الاقتصادية الذي أدى الى فوضى وفقدان التوازن في السوق نتيجة لتجميد رؤوس الاموال في السلع والمستلزمات المستوردة التي تفوق أضعاف حجم الحاجة الحقيقية . ولا بد بهذه المناسبة من الاشارة الى احدى التجارب العالمية في صيانة رأس المال والحفاظ على الموجودات النقدية ، تلك هي التجربة اليابانية في السيطرة على الخزين من البضائع والسلع المستوردة وتحقيق أعلى المردودات من الموارد الاقتصادية، واخضاع عملية الاستيراد الى خطط محكمة في توفير الاحتياجات الاستيرادية رغم افتقارها الى العديد من المواد الأولية ومصادر الطاقة التي تحتاجها بشدة في صناعاتها الواسعة المختلفة، إلا انها اعتمدت سياسة التخطيط للسيطرة على الخزين والموارد المادية لسد احتياجاتها من السلع والمواد ومستلزمات الطاقة التي توفرها عن طريق الاستيراد .. بدءاً من المصدر الى موقع الاستخدام تحت شعار ( Just in time ) وبما معناه ( توفير الاحتياجات من المواد والمستلزمات في الوقت المناسب ) من دون أن يكون هناك تكديس وخزن غير مبرر يتجاهل الخلل في التوازن بين الحاجة الحقيقية ومتطلبات الانتاج أو قدرة السوق الاستيعابية ، وبذلك فانهم قد اعتمدوا سياسة التخطيط المسبق لتحقيق هذا التوازن وتجاوزوا حالة تجميد رؤوس الاموال من جهة والتوسع في انشاء المخازن وتحمل النفقات اللوجستية من جهة اخرى بما يوفر أفضل فرص الاستفادة من انتاجية رأس المال ، من خلال اخضاع العملية الاستيرادية الى برمجة زمنية ومكانية ( من المنبع الى المصنع ) دون ضياعات في رؤوس الاموال أو ضغط لوجستي على أماكن الخزن أو استنزاف غير ضروري في نفقات النقل والتداول أو تحمل كلف اضافية نتيجة سوء الخزن أو الأضرار الحتملة في حالة حصول الحوادث والكوارث المحتملة التي قد يتعرض لها المخزون من السلع والمواد ، وإنما اللجوء الى توفير الاحتياجات ومستلزمات الانتاج (في الوقت المناسب) دون استنزاف أو تجميد لرؤوس الاموال رغم ما يتمتع به الاقتصاد الياباني من وفرة في هذا الجانب .ومن الممكن الاستفادة من تطبيقات هذا الاسلوب وبما يتناسب مع طبيعة وظروف العملية الاستيرادية للأغراض التجارية لتحقيق نتائج اقتصادية جيدة للقطاع التجاري والاقتصاد الوطني في الحفاظ على رؤوس الاموال وعدم تسرب العملة الصعبة . |