القرآن و مفسروه ... وجها لوجه

القرآن الكريم كتاب الله الخالد الذي لا تنال جوهر معانيه أسمى العقول و لاتدرك مرام مقاصده أوعى القلوب ، وإنما هي تأخذ من فيض أفكاره بقدرها لا بقدره ، ولذلك كان بحرًا زاخرًا لاينضب معينه ، هذا الكتاب كان ولايزال معجزة السماء في خلقه متحديًا أن يجاري أساليبَه وفنونَ بلاغته ألبابُ الفكر و الأدب ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرا .

ومع وضوح ظاهرة الاعجاز فيه وارتباطها به منذ سنيِّ ظهوره إلا أننا نضع أيدينا على ظاهرة حاولت الاقتراب من فهم معاني هذا السفر الخالد تجلت بوجود كمٍّ هائلٍ من التفاسير منذ ولادتها في ما بعد عصر صدر الإسلام وحتى يومنا هذا ، وكلُّ واحدٍ منها هو محاولةٌ لاستجلاء مظاهر العلم و الجمال الإلهي ، وقد توحي هذه الظاهرة بوجودِ تناقضٍ ما مع الغرض الأساس من إنزال القرآن ألا وهو هداية الناس ؛ إذ كيف يمكن أن تتحقق هذه الهداية مع وجود آراءٍ تفسيرية قد يتعارض بعضها مع البعض الآخر حتى تصل إلى مستوى التناقض و التهافت فيما بينها ، فلا يعرف القاريء من هو الأقرب للصحة منها فضلاً على تعذر الجمع بينها.

ويُشعر بخطورة هذه الظاهرة و تداعياتها قوله تعالى : ((أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا )) النساء : 82 .

فالاختلاف في فهم القرآن الكريم أمر طبيعي لكن أن يفضي هذا الفهم لضرب المفاهيم القرآنية على المستوى البعيد ، وقد تصل إلى حد التعارض معها حين التدبر و التأمل في ما ذكره القرآن في موارد أخرى فهذا أمرٌ خطير ، ومؤدى الآية الكريمة التي سلف ذكرها أن كل ما من شأنه التناقض و التهافت لن يحقق الهداية ومن ثم لن يلتقي مع دلالات القرآن لأنه لم يلتقِ مع الرؤية التشريعية التي استدعت وجود النص القرآني وعليه سيكون بعيدًا كل البعد عن كلام الله سبحانه وتعالى .

وقد أوضحت هذه الآية أيضًا مسألة مهمة تعد ركيزةً أساسية في إيضاح و تحديد المنهج التفسيري الصحيح عن غيره ؛ بعد أن اشترطت التدبر في آفاق القرآن للوصول إلى المعنى بصورةٍ دقيقة ، وذلك بالنظر إليه كمدونةٍ واحدة وليس التعاطي معه تفسيريًا بوصفه مجموعةً من الآيات المتفرقة ، بل يكون كتلةً لغويةً واحدةً لايتطرقُ إليها التضارب أو التهافت أو التعارض .

بيد أننا نضع أيدينا على وجوهٍ تفسيريةٍ تتعارض فيما بينها ولاترتقي إلى المستوى الذي تجذب القاريء للتفاعل معها قرآنيا ؛ لأن معاني القرآن كما قلنا تتعلق بالهداية والرحمة وما سوى ذلك لن يصمد طويلا في ساحة الخلود القرآنية .

ويبدو لي أن سبب ذلك حسب فهمي أن المفسر لم يفسح المجال لفكره في التدبر بكل آيات القرآن أو النظر في العلاقة بين الآية المراد بحثها وبين بقية الآيات التي تقترب منها من حيث الدلالة أو الألفاظ ؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضًا، وقد أوضحت الآية هذه الفكرة في ( أفلا يتدبرون القرآن ) إذن القرآن يدعونا إلى التدبر في كل آياته بأسلوبين أفقيٍ و طولي ، الأول يختص بالنظر في علاقة الآية التي يُراد فهم معناها مع الآية الشبيهة لها من حيث الألفاظ أو الإسلوب أو السياق أو الدلالة ، أما التدبر الطولي فهو أن لا تتعارض نتائج القراءة الأفقية مع ما قرره القرآن في عموم آياته ، فالتدبربهذه الكيفية هو الذي يميز الغث عن السمين و الصحيح عن السقيم ، و يُعد بمثابة صمام الأمان من نسبة أي فهم للمعنى على أنه تفسيرٌ قرآني ما لم تتوفر فيه القراءتان الطولية و الأفقية .