أور (عواء الثعالب لايُحبُ البساطيل )

في كل القصص التي كنت أسمعها عن الثعالب في حكاياتها مع الدجاج والتي كنت اسمعها واقرأها في قصص الطفولة كنت أتخيل الثعلب الحيوان الذي يرتدي المكر والخديعة في كل حياته ، ولكنه في النهاية كما تصوره القصص وحكايات جداتنا الحيوان المسكين يصنع أخلاقه وتصرفاته الماكرة المدفوعة بالجوع وتعيش في اغلبها في بيئة الخرائب والارض القاحلة الجرداء سوى من الطلل وبيوت الطين المهدمة والتي تركها أهلها بسبب حرب أو قحط .

لكن هذا الرأي اختلف عند قراءاتي ولأول مرة في قراءتي للرواية الرائعة للانكليزي د. أج .اورنس المسماة الثعلب .

ففي تلك الرواية يسري حس خفي من اثارة العيون والغرام في حياة تعيش من خلال الغريزة في مجتمع انكليزي حوله لورنس الى هاجس الممنوع الشهي في عيون الثعلب .

ليس الثعلب هو ( الواوي ) الذي نخشى وجوده في المكان ليشكل هو والأرنب فآل نحس ، فهو لايتواجد في الاهوار ، ولكن صوته البعيد من الضفاف او التلال ( الأيشنات ) يأتي اليهم في سكون الليل ، فينهضون من صوابيطهم ليتفقدوا حيواناتهم الداجنة .

كنت اسمع هذا العواء في الليل البعيد فأتذكر كوميديات حكاياته مع الدجاجة االمسكينة والاسد الغبي فأضحك ولكنه مع رواية لورنس أثار فينا الأحاسيس الغامضة ونحن نتداولها يوم تُرجمت لأول مرة في العراق من قبل دار المأمون ، عشنا في احساس بريق عينيه الغجرتين وتخيل تلك الاباحية المشعة بين الخديعة والسرير واشياء اخرى كنا لانتداولها امام التلاميذ حتى لانخدش حياء تلميذات صغيرات من بنات المعدان كن جالسات في الصف .

يوم أنزل المارنيز قواتهم المحمولة في أور ، كان من بين الغزاة فصائل مشاة للاستطلاع تسمى الثعالب ، لأنها تتعامل مع الغش والاختفاء في المرور خلال الخطوط القتالية للعدو . ولأن أور المكان الاثري الذي قاده قدره التعس منذ احتراق أور والى يوم اتى اليها جنود دونالد رامسفيلد قد مسكت سوء الطالع عندما قررت الدولة قبل 2003 ان ينشئوا على بعد ميلين منها قاعدة الامام علي الجوية التي اتخذها الامريكان معسكرا ومقر قيادة لعمليات الجنوب .وبعدهم بأشهر اتت قوات ايطالية وبرتغالية وكورية وانتشرت في المكان ليكون قاعدة عسكرية لها.

أؤلئك الغرباء ارتدوا بدلات نمور مرقطة ولكن في قلوبهم وعقولهم كانت تحمل افكار ثعلب ليتحاشوا شيء قد يظهر فجأة من بين السكان او من بين اطلال الاثر يسمونهم رجال مقاومة الأحتلال .

ولأن الثعالب جبانة ، فهم يظهرونَ بدلا عنها صورة البندقية والدبابة والجندي المرتدي كامل عدته. وربما كل الجيوش التي جاءت لتحتل أور منذ أن أن أحرقتها أيلام في أول أذلال لآلهة القمر ( سين ) أله المدينة وحتى مجيء الاباتشي وهمرات المارنيز.

وفي كل هذه الجيوش كانت هناك فصائل تحمل أسم ( الثعلب ) لها مهمات خفية وخلف خطوط الاعداء لترصد المكان ثم الانقضاض عليه من خلال الخدعة قبل طلقة البندقية.

مرة عندما كان الاسكندر المقدوني في بابل ، طاف عليه في واحد من أحلامه طائر ابيض ، حلق فوق رأسه وهو يجلس على عرشه ثم قذف فضلاته لتسقط على تاج الملك ، ثم هرب الطائر منحدرا صوب جنوب بابل ، حيث ذُكر للملك المقدوني ان هناك مساحات هائلة من المياه ويسكنها بشر غامضون واشداء لا تلامس اقدامهم الارض بل خطواتهم تسير على الماء فقط.

غضب المقدوني وقال لقادته : إذهبوا الى جنوب بابل ولاتبقوا طائرا هناك.

قال القادة : جنودك يا مولاي تقاتل جنودا مثلهم ولا تقاتل الطيور لان امكنتها السماء ، وجياد جنودك ليس لها أجنحة.؟

قال : حتما من ارسل ذلك الطائر ليرمي فضلاته على تاجي هو رجل ، اقتلوا كل الرجال .

انحدر جنود الاسكندر الى الجنوب ، الى ارض سومر حيث ما تبقى من المدن التي صنعت مجد دول جنوب بابل في اور واكد والوركاء ولارسا وتللو ، وكان من بين الجيش فصيل الثعالب الذي كان يتقدم الجيش متخفيا ويدخل المدن بصفة تجارية او حتى متسولين او قارئوا فال وبخت . لكن الجنود الثعالب تفاجئوا بأنهم لايحسنون الدخول عميقا في المكان كونه مغمورا في المياه وان الناس في الاهوار لايثقون بالكهنة والغرباء ولايدخلوهم الى مدنهم السرية وقرى القصب .

عادوا بخفي حنين ليخبروا قائد جيش الاسكندر استحالة اقتحام المكان الذي اتى منه الطائر الذي رمى برازه على رأس الملك المقدوني.

عاد القائد ليخبر ملكه أن المكان عصي جدا على أي جيش لن تستطيع اي جيوش ان تقتحمه حتى التي اقتحمت طروادة وحتى الثعالب و الذئاب و الضباع والنمور ، فهناك داخل اكمة القصب رجال ضخام بسحنة سمراء ، سيوفهم مرادي من الخشب وعصا تثبت فيها كف حديدية مسننة تسمى الفالة يستطيعون فيها قتل خنزيرا برياً بوزن الف وقية . يظهرون كالشهب ويختفون كالبرق ولا يطمئنون لوجود غرباء قريبا من مدنهم المائية المبنية من الطين والقصب.

حزن الاسكندر لأن جنوده لم يفعلوا شيئا ، فعاد جيشه مع ثعالبه الى بابل مخذولا ومنكسرا . وبعد ايام سكنت الكوليرا جسد الملك المقدوني ، فسجي على دكة من الرخام ليلاقي موته وهو يعيش كآبة الطير الذي اتاه في المنام ورمى فضلاته على رأسه.

ليل أور الذي بقي وطوال الاف السنين معفراً بالاتربة والصمت والاعتقاد القائم بين الاعراب والقرى القريبة ان المكان مسكون بأرواح اقوام عاشوا هنا منذ دهور بعيدة ، يظهرون في الليل يمارسون طقوسا غامضة ، وبعضهم يخرج ليشم الهواء بعد ان اختنق لانهم دفنوه حيا في اقبية الموت التي كانت مثاوي للملوك والامراء والاغنياء والكهنة.

فلم تسكن المكان في ليله الطويل سوى الثعالب ( الواوي وأبي الحصين ) تنام في الحفر نهارا وتنهض في الليل تتجول في المكان فلا تجد ما تأكله فتذهب الى القرى القريبة واغلبها بيوت لعشائر آل غزي والبدور والحسينات ، وخلسة يدخلون الى اقنان الدجاج ويسرقونها بعد ان يعضونها من رقابها ويسرعون معها عائدين الى خرائب واطلال اور فلا يجرأ لأحد ملاحقتها حتى لو أحس بذلك وكأن الثعالب في غزوتها الليلية تعيد فصول مواسم الغزو لملوك السلالات ولكن بجنود آخرين غير جنود اوركاجينا وشولكي واور ــ نمو الذين يتم اعدادهم وتجهيزهم لغزو مدن ميسان وبلدة الدير ويصعدون شمالا الى حران والرقة ودير الزور في اعالي الفرات وربما تجتاز حمص وحماة وتصل الى حدود ارمينيا والاناضول .

لكن غزو الواوية في هذا الليل الجائع لايتعدى ثلاثة او اربع فراسخ ثم تعود الى جحورها مختفية كل النهار.

وكأنها تؤنس في ظهاري الحر والقيض او تلك التي يجمدها برد شتاء المناطق البرية والقاحلة ، تؤنس أؤلئك النائمون منذ ازمنة العهود المجيدة الغابرة حيث لم يبق في المكان سوى الاطياف ، أما المقتنيات والتوابيت والقيثارات فقد تم سلبها كلها من قبل البعثة الاثارية التي ارسلتها جامعة بنسلفانيا الامريكية العالم السير ليوناردو وولي والاثاري ماكس مالون زوج الروائية الشهيرة ( آجاثا كريستي ) .

حملوا معهم وبمساعدة من امرأة الاستخبارات البريطانية في العراق المس (جرترولد بيل ) وبصناديق كبيرة كل المقتنيات الثمينة والكنوز التي لاتقدر بثمن والتي وجودوا اغلبها في مقابر المدينة المقدسة واقبية الموت النذري.

ومنذ انتهاء زمن البعثات الاثرية بقي المكان يعيش اهمال متعمد حتى مع اشارة وولي التي صرخ فيها هنا ولد ( ابراهام النبي ) مما منح المكان في الاونة الاخيرة اهمية بالغة وخصوصا للعالم المسيحي الذين يعتبرون البيت الذي ولد فيه النبي ابراهيم الخليل محجا.

وغير البعثات الاثرية كالحجيج ، كانت السفرات المدرسية مؤانسا رائعا لوحشة المكان وخبر سعيد للثعالب عندما تجيء سيارات الفولفو والدوج الخشبية وهي تحمل تلاميذ وطلبة السفرات المدرسية التي كان ينظم معظمها أساتذة مادة التاريخ ، وما أن تتحرك السيارات راجعة الى الناصرية أو السماوة ومدنهما القريبة حتى تخرج الثعالب لتبحث عن فضلات الاكل الذي يتناوله التلاميذ اثناء السفرة واغلب ما يتبقى هو فتات خبز واوراق بصل وفجل وقشور بيض مسلوق ، لكن سعادة تكمن في ما يتركه اعضاء الهيئات التعليمية والتلاميذ الاغنياء من طعام عندما يكون اغلبه عظام وبقايا لحم دجاج مشوي او مسلوق .

حكاية الثعالب مع المكان ، هي حكاية الحياة والموت ، وربما هي حارسة أمينة للمكان منذ ان هجره اهله في آخر ازمنة المجد عند النهايات المأساوية لاحتراق أور .

وربما وحدها الثعالب من ظلت تحفظ عن ظهر قلب المرثية الحزينة التي كتبها واحد من ابناء المدينة المنكوبين بفقدان مدينة كانت في وقتها درة العالم القديم.