من يصنع النخب السياسية ؟

 

في معرض إجابته عن بعض تساؤلاتنا حول من المسؤول أو من يتحكم بإنتاج شكل وطبيعة النخب السياسية واختيارهم

هل هم

أولاً: النخب الاجتماعية

ثانيا: النخب الدينية

ثالثا: النخب الاقتصادية

يقول الدكتور (علي السعدي) أستاذ علم الاجتماع- تضمّ السياسة بصفة عامة ، ثلاثاً من الفئات هم على التوالي :

أ- السياسيون :وهم من يضع قواعد السياسة وأساليب ممارستها وأشكال تطبيقها، وتشمل أصحاب المناصب العليا في الدولة والمؤثرين في القرار ، من قادة أحزاب فاعلة – مشاركة في السلطة أو معارضة لها – ورؤساء الكتل النيابية ، والبارزين من النواب أو من هم في موقعهم

ب- المشتغلون بالسياسة : وتتكون من أعضاء الأحزاب المتفرغين ، والكوادر الحزبية ، والمستشارين المقربين من أعضاء الفئة الأولى.

.ج- الملتصقون بالسياسة :وهم عموماً الموظفون في المكاتب الحزبية والدواوين الحكومية من محررين ومندوبين وكتبة وإداريين ومرافقين وما شابه.

ولما كانت (النخب)تعني تلك الفئة المختارة أو المنتقاة المؤهلة لإرساء سلوكيات سياسية تصبح معايير للعمل السياسي ، ومنهاً : المصالح العليا – التنافس ضمن البرامج – ثقافة الاستقالة – تحمل المسؤولية – التفسير وليس التبرير- قبول الآخر – القدرة على إدارة الحوار- صنع الممكنات السياسية – وغيرها – وعلى ذلك يمكن القول أن العراق طالما شهد نخباً تمارس السياسة – لكنه لم يعرف بعد نخباً سياسية بالمعنى المذكور أعلاه -وتلك واحدة من المفارقات العراقية حيث هناك سياسة دون فكر سياسي – وسلطة دون دولة – وماض دون تاريخ – أما من يصنع النخب السياسية أو يساهم في بلورتها ونشوئها – فهو المجتمع بحسب ثقافته واقتصاده ومستوى قدرته على الاختيار.- ويستطرد قائلاً – المفاضلة بين الحاكم والحكيم في التجربة العراقية ، طالماً كان اختباراً بالغ الصعوبة لا يستطيع خوضه إلا القلائل ،لذا تحولت مؤشرات الحكمة من معرفة الحياة وارتفاع منسوب الذكاء وحسن التقدير في تصريف الأمور والقدرة على إنتاج المعرفة والسعي لاكتساب المعلومة ،إلى اختزالها في مسعى واحد تركّز في معرفة السبل لإرضاء الحاكم والتقرّب منه ، من هنا يلاحظ تقبل الناس لما يقوله السياسي – باعتباره ضمن الطاقم الحاكم أو مقرباً – لأنه قد يحمل معلومة يمكن الاستفادة منها في التعرّف إلى عقلية الحاكم أو ما يجري من حوله ، ولما كانت تلك المعلومة سهلة الاستهلاك ،لا تتعب الذهن في الحصول عليها ولا في محاكاتها، لذا لا يؤاخذ السياسي إن تحدّث عما فعله أو قاله أو رآه هو شخصياً بل يعتبر ذلك جزءاً من عمله ، أما المثقف ، فما يقوله قد يدخل في مفهوم المعرفة المنتجة التي تحتاج إلى جهد فكري لتقبّلها أو محاكاتها أو التحاور معها لأنها مازالت في موضع الافتراض ، كذلك قد لا تكون لها علاقة مباشرة بالقرار المتخذ بناءاً على المعلومة وحسب ، بل ربما تناقض بطرحها ، محتملات أخرى ليست مما يعرفه السياسي أو يسير وفقه ، على ذلك لا نتقبل من المثقف أن يتحدث بذكر ما كان قد فعله أو قاله أو كتبه أو نادى به ، باعتباره حالة فردية قد لا تعجب الحاكم أو من هو في صفه ،ذلك ما هو سائد في العراق وما يشابهه من المجتمعات ، فيما نجد عكسه في المجتمعات المتطورة ، حيث البحث عن المنتج المعرفي، أهمّ في القبول من القول السياسي. ولما كان الحاكم أو السياسي ومازال ، يعتبر إن حاجته إلى القوّة الطائعة،يوجهها بما يراه لتعزيز حكمه ، تفوق حاجته إلى الحكمة اللائمة توجهه بما تراه كيف يحكم ، لذا لا غرابة أن يعود العراق في عهد الديمقراطية ، للمطالبة بزعيم يملك القوّة كي يحكم العراق كما في زمنه الاستبدادي ، ولم يطالب في المقابل بحكيم ذكي يستطيع أن يرى الغابة وأشجارها) بعين العقل ،كي يقود شعبه نحو النجاح) .——– قيل : سئل نابليون بعد معركة واترلو:كيف خسرت المعركة وأنت القائد البارع؟ أجاب : لقد رأيت كل شجرة في الغابة – لكني لم أر الغابة ذاتها —– فكيف بسياسيين لم يروا الغابة ولا أشجارها ؟؟

إذاً النخب السياسية ليست مجرد قوالب أو سلعة تصنعها جهة ما وتكون مسؤولة عن إنتاجها – إنها تشابك مجموعة من العوامل والحيثيات وتراكمها ، إنها تجربة وكاريزما بل وموهبة قد تتوفر في أشخاص معينين وقد لا تتوفر(في مقالة للدكتور السعدي (القيادة وأنواعها في السياسة والدولة )وملخصها :أن هناك ثلاثة أنواع من القادة :القائد الأزمة ، أي من يكون وجوده مسببا لاستيلاد الأزمات واستمرارها – قائد الأزمة – وهو ذلك الذي يستطيع إدارة الأزمة والحفاظ على عدم تفاقمها لكن دون القدرة على إيجاد الحلول لها – ثم قائد تصنعه الأزمة – وهو ذلك القائد الذي يخرج من بين صفوف الشعب ممتلكا القدرة على احتواء الأزمة ثم معالجتها وصولا إلى تجاوزها — ومن أمثال النوع الأول :صدام حسين – بشار الأسد وغيره – النوع الثاني مثال عمر البشير وبقية الرؤساء العرب – النوع الثالث أمثاله نيلسون مانديلا وغاندي — بالنسبة للعراق لم يعرف سوى النوعين الأول والثاني – —

أن العراق هو البلد الوحيد الذي لم يعرف العبودية طوال أكثر من 3 الآف عام من تاريخه في عصور ما قبل الميلاد – وان ظهور الطغاة فيه لم يظهر ويتجذر إلا بعد ظهور الإسلام؟؟كان الملك في سومر يحمل قفة الطين ليسهم في بناء المعبد أو مجلس الدولة – وكان لكل مدينة مجلسا شيوخ ومحاربون قد يرفضون ما يقرره الملك فيمتنع عنه -وحين وحّد سرجون بلاد الرافدين في إمبراطورية كبرى – وضع أول قانون للفصل بين السلــــــــــطات (لا يتدخل الكهنة في شؤون الولاة – ولا يتدخل الولاة في شؤون القضاة) .

إن تجربة صدام حسين وكاسترو لا تتشابهان في التفاصيل والظروف وان تشابهتا في الشكل العام – الأول طاغية والثاني دكتاتور -أما تجربة غاندي ومانديلا – فهما النموذج الأمثل لنوع القيادة التي تصنعها الأزمات التي تمر بها شعوبها ، فيتقدموا بمزيج من الإصرار والصدق والكاريزما والقدرة – لتكون النتيجة أن الشعب يمنحهم ثقته فيقومون بما عليهم فعله – ربما هي الظروف تستولد قائدا قد لا يكون معروفا بداية — أنها محصلة من الصعب أن تحصرها في قواعد معينة –لكن لابد لكل شعب من أن يفرز قادته كرجال دولة وليسوا ممتهني سلطة …..في رسالة أرسطو إلى تلميذه الأبرز الإسكندر المقدوني يوصيه فيها (كن لشعبك قائداً ولعبيدك سيداً) وكان أرسطو قد قسّم الشعوب إلى (أسياد) بطبعهم يولدون وهم مهيئين للسيادة والحكم وهؤلاء ينبغي أن يقادوا لا أن يستعبدوا، والقيادة تفترض أمّة من مواطنين أحرار يتمتعون بالشجاعة والذكاء والنبل، ويسعون إلى الرفعة والنصر وخلق الحضارة والمدنية وكلّ ما يرفع في مستوى الإنسان (السيّد) بطبعه، فيما هناك شعوب من العبيد يولدون للخدمة والخضوع والمذلّة . القائد هنا يفترض التناظر في شعب حرّ لا يجوز استعباده، بل تنظيم صفوفه والإشراف على شؤونه والسير معه نحو تحقيق الانجازات وذلك برعاية علمائه وتشجيع نشطاءه واحترام حريته وتربية أطفاله وصون كرامته ورفع معيشته وتلبية احتياجاته، تلك هي مواصفات القائد في تعامله مع شعبه، وذلك ما أراده أرسطو الفيلسوف اللامع من تلميذه القائد البارع الذي لم يجد غضاضة في التوجه بنفسه لزيارة رجل مدقع الفقر ينام في كوخ على شاطئ البحر اسمه (ديوجين)( ليسأله إن كانت له حاجة يقضيها له .الشعب الحرّ يعترف بقادته، ولا يعترف بسادته، بل ينبغي أن لا يعرف من يسوده ناهيك بأن يخضع لسيطرتهم، كي لا يستعبدوه فيتحول من طائع بالتزام، إلى خاضع بإلزام -لقد نشأت الدكتاتوريات بالأصل من الديمقراطية ذاتها ،والديمقراطية تعني حرية الفرد في المجتمع وحرية المجتمع في الاختيار ، ولأن الحرية قد تقود إلى نوع من الفوضى حيث يسعي الفرد لتحقيق الذات، قد يصطدم بالذوات الأخرى الساعية بدورها لممارسة حريتها ،لذا ينشأ اللانظام في المجتمع ، خاصة في بداية تجربته الديمقراطية ، وكلما تعثرت مسارات الديمقراطية ، تزداد مظاهر الفوضى ، ما يستدعي من المجتمع أو من انتخبهم كممثلين عنه ، أن يلجأ إلى تكليف شخصية يرونه مناسباً لضبط الأمور والحدّ من الفوضى ، مزّوداً بصلاحيات واسعة ، فماذا ينتج من ذلك – أما الطاغية فيستولي على الحكم بالقوة نتيجة لانقلاب عسكري أو مؤامرة اغتيال أو ما شابه ويفرض على رعاياه طاعة مطلقة لا يحدها قانون ولا مساءلة – وعادة يتخذ الطاغية شعارا بأنه يحكم باسم الله وحكمه متوارث في النسل – لذا يظهر الطغاة في الأنظمة الملكية في العادة فيما يظهر الدكتاتور في الأنظمة الجمهورية – ولأن الدكتاتوريين العرب تصرفوا كملوك رغم أنهم يحكمون جمهوريات على ما يفترض – لذا ينطبق عليهم صفة الطاغية – والطريف انه هذه الكلمة تعني القلعة أو الحصن في الإغريقية القديمة كما يذكر المؤرخون…..